من الواضح أن هناك تغييرات استراتيجية منتظرة في سورية، ترتبط بعوامل متعددة، منها ما يتعلق بالجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية، وقد تبرز نتيجة تطورات داخلية وإقليمية ودولية، وفيما يلي بعض النقاط الرئيسة التي يمكن أن تؤثّر في مسار الأحداث في سوريا مستقبلاً:
الانفراج السياسي والحلّ الدبلوماسيّ، ولعل ذلك ما يبدو واضحاً في تسوية النزاع، فهناك محاولات مستمرة من قبل أطراف دولية، مثل الأمم المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، للوصول إلى تسوية سياسية بين الحكومة السورية والمعارضة المدعومة خارجياً وذلك وفق اتفاقيات جنيف وأستانا ومسار اللجنة الدستورية، وهي أدوات تهدف لتحقيق نوع من التوافق حول حكومة موحّدة أو انتقالية وإعداد دستور جديد، وهو الدستور الذي وضعته روسيا لسورية ضمن إطار فيدراليّ، وقد أشرت إليه قبلاً في أكثر من مقالة منشورة سابقاً، ومن ذلك مقالة بعنوان:" رأي في مشروع الدستور الروسيّ، وما دور أبناء سورية في صياغته؟!"، وهي منشورة بتاريخ ٢٩/٥/٢٠١٨م؛ وأخرى بعنوان: "هل تسعى روسيا لفرض مشروع دستورها الرّوسيّ على لجنة مناقشة الدّستور في جنيف ؟!"، وقد سبقت الإشارة إلى النصر التقسيميّ في مقالة منشورة سابقا أيضاً، وإنّ كل ما يحدث حالياّ، سيؤدي إلى التقسيم القادم وفق الحالة الفيدرالية التي بدأت فيما أُطلق عليه مناطق خفض التوتر، وهو ما أشرت إليه قبلاً في مقالات كثيرة سابقاً حول تأثير تلك الأساليب على المستوى البعيد، فالتقسيم لا يتم بين ليلة وأخرى، بل يحتاج إلى ترتيبات قد تأخذ أعواماً، وهذه الحالات باتت واضحة الآن بجلاء،
ومن الملاحظ أنّ هناك دوراً عربيّاً في حلّ الأزمة، فهناك انفتاح عربي تدريجي تجاه الحكومة السورية، ويمكن أن يُترجم إلى دعم اقتصادي أو سياسي، مما يعيد سورية إلى الحاضنة العربية، ويساعد في تعزيز الاستقرار، وخصوصاً من الجانبين الإماراتي والسعودي، وهو ما سيتم توضيحه في الأجزاء القادمة.
وهناك المتغيّرات العسكرية على الأرض، ولا يمكن تجاهل دور الولايات المتحدة وروسيا وتركيا، التي تنشر قواتها وقواعدها في مناطق مختلفة من سوريا، وستكون سياسات تلك الدول ستكون مؤثّرة في أي تغييرات قادمة، وقد يؤدي انسحاب القوات الأميركية، على سبيل المثال، إلى زيادة النفوذ الروسي أو التركي في مناطق معينة، لا سيّما في الشمال الشرقي.
وأمّا فيما يتعلّق بالنفوذ الإيراني، فإن إيران تحتفظ بنفوذ عسكري وسياسي واسع في سورية، وقد تواجه هذا النفوذ ضغوطاً أكبر نتيجة للضغط الأميركي أو الإسرائيلي المتزايد، أو حتى بوجود مساعٍ روسية لتقليل النفوذ الإيرانيّ، وهو ما أشرت إليه في دراسة استراتيجية سابقة منشورة أيضاً تحت عنوان: "التطبيع السوري الإسرائيلي القادم ( اتفاق السلام ) أبعاده استراتيجية"،وذكرت في الجزء الرابع المنشور بتاريخ ٢١/١٢/٢٠٢٠ عند الإشارة لمنعكساته في سورية، مايلي: "
ويمكن أن تحقّق إسرائيل أهدافاً عدّة تسعى لها من وجهة نظرها ، وأهمّها : السّعي لإفراز واقع جديد قد ينتهي بتفكيك سلاح حزب الله ، وإضعاف الموقف الفلسطينيّ الرّسميّ بعد فشل المفاوضات الفلسطينيّة الإسرائيليّة المتكرّر ، وإضعاف مواقف الحركات الرّاديكاليّة في السّاحة الفلسطينيّة ، وفتح باب العلاقات العربيّة مع إسرائيل بصورة أوسع ، والسّعي لفكّ الارتباط الاستراتيجيّ بين سورية وإيران ، وإبعاد إيران عن حدودها عبر إجراءات أمنيّة من سورية رغم أنّ هذا المطلب حدّدته إسرائيل في أثناء اجتماع ثلاثيّ روسيّ أمريكيّ إسرائيليّ في تلّ أبيب بتاريخ 25/6/2019م ، وقد جمع بين نيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن الرّوسيّ وجون بولتون مساعد الرّئيس الأمريكيّ لشؤون الأمن القوميّ وقتئذٍ ومئير بن شبات رئيس مجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ ، وكان الاجتماع برئاسة بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل ، ودعا الاجتماع إلى ضرورة انسحاب القوّات التي دخلت سورية بعد عام 2011م ، وقال فيه نتنياهو :
" إسرائيل تدخّلت مئات المرّات لمنع إيران من التجذّر عسكريّاً في سورية " .
وإنّ ما تريده إسرائيل أيضاً إنهاء الصّراع العربيّ الإسرائيليّ ، والسّعي لتّعويضات دوليّة يمكن أن تتمّ نتيجة انسحابها من هضبة الجولان سواء بأراضٍ من دول أخرى كالأردن مثلاً أم عبر تأجيرٍ وتعويضات مادّيّة أخرى ، وإيجاد بيئة آمنة لها إقليميّاً ، وانسحابها من الهضبة ضمن فترة زمنيّة محدّدة يتمّ الاتفاق عليها ، وضمان التّبادل التّجاريّ"؛ وهذا أمر يحتاج سنوات، وقد بيّنته بدراسات كثيرة، حول دور الوزارات السورية في هذا الصدد، وقدّمته أيضاً لسيادة اللواء محمد الشعار نائب رئيس الجبهة الوطنية بتاريخ ٧/٢/٢٠٢٢م، ونشرته في عشرين جزءاً تحت عنوان: " رؤى وفكر تطويرية لعمل الجبهة الوطنية التقدمية في سورية"، ونلاحظ أنّ ما تمت الإشارة إليه عن الوضع فيما يتعلق بإيران يحدث حالياً، خصوصاً تلك الاعتداءات المتكرّرة من إسرائيل على سورية على مواقع تخصّ الجانب الإيرانيّ دون أي ردّ سوريّ، وبالتالي: فإنّ مايحدث حالياً، هو مخطط، يسير بالاتفاقات الدولية المرسومة والمعدّة سلفاً، وبتوافق عربي سوري بامتياز، وهذا ما يؤكّد التغييرات الإيديولوجية الاستراتيجية في التفكير السوري، وهو ما سيكون أكثر وضوحاً في قادم الأيام، وما ستتم الإشارة إليه في الجزء الثاني من الدراسة الحالية.
كما أنّ من تلك المتغيّرات التحديات الاقتصادية وإعادة الإعمار، وتعدّ إعادة إعمار البنية التحتية السوريّة خطوة مهمة لتعزيز الاستقرار. ولكن، بسبب العقوبات الاقتصادية (مثل قانون قيصر الأميركي)، والتحديات المالية، تواجه سورية صعوبات جمة، وإنّ استئناف الدعم العربي أو الصيني يمكن أن يسهم في تخفيف تلك الضغوط، إلا أنّ تحقيق ذلك الأمر يستغرق وقتاً، وهو ليس بعيداً، نتيجة الاتفاق السوريّ العربيّ الواضح على الأرض، مما يمكن أن تتجه سورية نتيجته لتعزيز اقتصادها عبر التركيز على الزراعة وبعض الصناعات المحلية، بالإضافة إلى البحث عن بدائل لدعم عملتها واستقرار أسعار السلع الأساسية وعودة النفط الذي يأمل الشعب العربي السوري في التنعّم من خيراته ودخوله في الموازنة العامة للدولة، ولكن هذا يعتمد على الوصول إلى حلول سياسية أو تخفيف العقوبات، وهو مايتوقغ أن يتم بُعيد مطلع العام القادم، وستشهد سورية تغييرات جذرية على المستويين الداخليّ والخارجيّ خلال الأشهر القادمة.
وفيما يتعلق بالتوازن الإقليميّ والدوليّ، فإنّ التطورات في العلاقات الدولية، سيؤثر في سورية بصورة كبيرة نتيجة لعلاقات القوى الكبرى، وإذا تغيّرت العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا أو إذا حدث انفتاح أكبر في العلاقات الإيرانيّة العربية بعد خروجها من سورية، فقد ينعكس ذلك على الملف السوريّ، ويغيّر التوازنات على الأرض.
وقد نشهد تعاوناً امنياً بين سورية ودول مجاورة، مثل العراق والأردن، لمواجهة التحديات المشتركة كالإرهاب وضبط الحدود، وهو ما تمت الإشارة إليه قبلاً في دراسة منشورة عام ٢٠٢٠.
وحول الوضع الإنسانيّ وعودة اللاجئين، فسيكون من الضروري توفير بيئة آمنة ومستقرّة لعودة اللاجئين السوريين بعيداً عن سياسات التهجير، إذا سعت سورية لتحسين الوضع الأمني والاقتصادي ومحاسبة الفاسدين واتبعت سياسة الاستقطاب للسوريين خصوصاً فئة الشباب بعد أن خلت سورية منهم فبدت عجوزاً وشبابها يبدعون خارجها بسبب هجرتهم نتيجة تردّي الأوضاع عموماً، وإذا بدأت عمليات إعادة الإعمار، وهي التي قد تُستهل من قبل الأمم المتحدة أو الدول العربية لتسهيل تلك العودة.
وسنكون أمام دور المجتمع الدوليّ، فالدعم الدولي سيكون حاسماً في تحسين الظروف الإنسانية، ويمكن أن تتوجّه سوريا للحصول على دعم منظمات دولية لتأمين الغذاء والمأوى والتعليم للنازحين والفئات المتضررة.
ولا يخفى أيضاً ضرورة استمرار التصدي للجماعات المسلحة في مختلف المناطق في سورية، وضمناً إدلب من ذلك لتعود لحضن الوطن، ليظل ملف إدلب وقوات المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا ملفاً حساساً، وقد تتوجّه القوات السورية بالتعاون مع روسيا وتركيا للبحث عن حلول عسكرية أو تفاهمات حول السيطرة في هذه المنطقة، كما أنّ بقايا داعش والجماعات المتطرفة، لا تزال هناك خلايا نائمة من داعش في مناطق مختلفة، وقد يتطلب التصدي لها تعاوناً أمنياً إقليمياً أكبر لمنع عودة التنظيم وتجنب زعزعة الاستقرار.
واخيراً يأتي دور الإصلاحات الحكومية والتنموية، فالإصلاح السياسي والإداريمهم جداً، وقد تتجه الحكومة السورية نحو إجراء إصلاحات لتحسين الكفاءة الحكومية وتعزيز الشفافية، خصوصاً إذا تم التوصل إلى اتفاق سياسي شامل، مع ضرورة الاهتمام بالتنمية المحلية، إذ يمكن لسوريا العمل على تطوير قدراتها المحلية لتقليل الاعتماد على الدول الأجنبية، مثل تنمية الزراعة وتطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة لتحفيز الاقتصاد المحلي، وما سبق من إشارات للوضع الداخلي عموماً كنت قد تطرقت إليه في دراسة استراتيجية منشورة قبلاً أيضاً بعنوان: " ماذا يأمل الشعب العربي السوري من السيّد الرئيس بعد أداء القسم"، وتم النشر بتاريخ ٣/٧/٢٠٢١م.
واختصاراً، فإنّ التغييرات الاستراتيجية المنتظرة في سورية، ستعتمد على مدى التقدم في الحل السياسي، وتحسين الوضع الاقتصادي، ودور القوى الدولية والإقليمية، وقد تستغرق هذه العملية وقتاً لتحقيق الاستقرار الشامل، وسنكون في الجزء الثاني مع التفاصيل لكل ما سبق ذكره، فلننتظر القادم.
بقلم : أ. نبيل صافية
الباحث والمحلّل السياسي، وعضو اللجنة الإعلامية لمؤتمر الحوار الوطني في سورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق