على مدار العشر سنوات الماضية كانت القضية الفلسطينية تشغل بالي كأي باحث مهتم بشؤون الوطن العربي, وكان الاهتمام يزيد نظراً لانتمائي القومي العربي, حيث تعد القضية الفلسطينية بالنسبة لنا قضيتنا المركزية, ومهما جرى من أحداث في وطننا العربي لا يمكن أن تحيد بوصلتنا, ولا يمكن تهميش القضية الفلسطينية أو استبعادها من بؤرة الاهتمام والتركيز والدلالة, وكثيراً ما كتبت عن القضية وما يحدث في الداخل الفلسطيني من عدوان وممارسات وحشية ومحاولات لاقتلاع أبناء شعبنا العربي الفلسطيني من جذوره في إطار مخططات التهويد وبناء المستوطنات للصهاينة الذين يتم جلبهم من كل بقاع المعمورة بهدف زرعهم في تربة رافضة لأي دنس, وكان يتم ذلك تحت سمع وبصر العالم أجمع, ومباركة من المجتمع الدولي وعلى رأسه الشيطان الأكبر الولايات المتحدة الأمريكية.
وخلال سنوات الربيع العربي المزعوم خفت وهج القضية الفلسطينية, وتراجع الاهتمام بها وبأخبار الشعب العربي الفلسطيني عبر وسائل الإعلام المختلفة, وذلك لصالح قضايا أخرى حيث انشغلت كثير من الدول العربية بالأحداث الداخلية التى اندلعت بفعل فاعل, وكنت كثيراً ما أكتب أن الرابح الوحيد من كل ما يحدث من فوضى داخل مجتمعاتنا العربية هو العدو الصهيوني, لأنه أصبح يمارس عدوانه على شعبنا العربي الفلسطيني بعيدا عن أى شكل من أشكال الدعم العربي, ذلك لما أصاب كل قطر عربي من مصائب تجعله منكب على نفسه, ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل وجدنا في الأيام الأخيرة هرولة بعض النظم العربية للتطبيع مع العدو الصهيوني وهو ما جعل العدو يطمئن بأن القضية الفلسطينية قد ماتت, وشيعت جنازتها دون أن يتحرك ساكن ودون أن يعلو صوت بالبكاء أو النحيب.
وفي ظل هذه الأجواء الجنائزية قرر العدو الصهيوني أن يخطو خطوة متقدمة نحو تهويد القدس واقتلاع باقي السكان المقدسيين لصالح بناء المستوطنات بعد أن أعلنت القدس عاصمة أبدية للكيان الغاصب في أواخر عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دون أى ردت فعل وكأنه تسليم بالأمر الواقع, فظن العدو الصهيوني أن الظروف مواتية تماما لاستكمال عملية الاقتلاع, هنا كانت هبة الشباب المقدسي للدفاع عن مدينته وبيوته ومقدساته التي تنتهك من قبل العدو الصهيوني, وخلال الأيام القليلة الماضية تطورت المواجهات, وأجبرت القوى الشعبية الصامدة الفصائل الفلسطينية المتناحرة على سلطة وهمية للدخول على خط المواجهة مع العدو الصهيوني, فانطلقت صواريخ المقاومة الفلسطينية البطلة والشجاعة لتدك حصون العدو الصهيوني وتحول سماء ليلهم إلى نهار, وخلال ساعات قليلة كان المستوطنون الصهاينة يهرعون إلى الملاجئ والخنادق للاختباء, مع ارتفاع رنين صفارات الإنذار وأصوات سيارات الإسعاف.
وفي ساعات قليلة تحول الوحش الكاسر المخيف إلى فأر يفر ويهرب ليختبأ في أقرب جحر, ومع استمرار القصف الصاروخي على المستوطنات داخل العمق الصهيوني أعلنت حالة الطوارئ داخل الكيان وتم حظر التجوال, وتوقفت رحلات الطيران وأغلقت المطارات, وتوقفت الحياة تماماً, مع تهديدات قادة الكيان الفاشلين بالتصعيد في مواجهة الشعب الفلسطيني المقاوم, ورغم العدوان الوحشي وسقوط الضحايا إلا أن ضريبة الدم التي تعود عليها أبناء شعبنا العربي الفلسطيني زادت من صلابة صمودهم, وجعلتهم أكثر قدرة على المواجهة والتحدي والمقاومة.
وقد جعلتني هذه الأحداث الجديدة أتساءل عن مستقبل القضية الفلسطينية ؟
وبالطبع هناك العديد من المؤشرات التي يمكن رصدها ومن خلالها يمكننا التنبؤ بمستقبل القضية الفلسطينية ومستقبل الصراع العربي – الصهيوني, ويمكننا أولاً الاستشهاد ببعض ما جاء على لسان بعض الكتاب الصهاينة حيث أشار الصحفي جدعون ليفي " أن اقتحامنا لمسجدهم كان غلطة كبيرة لم نحسبها, والقبة الحديدية لا يمكن أن تحمينا كما يدعي نتنياهو فهي لم تتصدى لأكثر من 30% فقط من الصواريخ, وصاروخ القبة قيمته 50 ألف دولار ينطلق لضرب صاروخ قيمته مبالغ ضئيلة ويخطئ غالبا ونخسر يومياً مليار دولار, لقد أصبحنا بلا حماية والأفضل أن نعود لأوروبا وأن يستقبلونا كلاجئين", ويشير كذلك الكاتب آري شبيت " إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة, يبدو أن الفلسطينيين الذين نواجههم هم أصعب شعب في التاريخ, ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم, وإنهاء احتلالنا لأرضهم", وتعبر هذه الآراء عن حجم الاحباط لدى قادة الرأى في الداخل الصهيوني وأن الحل الوحيد أمامهم هو العودة من حيث أتوا.
وثانيا يمكننا الاستشهاد بما كتبه المحلل الأمريكي الشهير توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز تعليقا على الانتفاضة " إن الأحداث الجارية في القدس أثبتت أن القضية الفلسطينية لم تمت, وأن اتفاقيات التطبيع مع دول خليجية عربية لم تنه القضية الفلسطينية, وأن الجيل الذي يقود الأحداث الأخيرة لا ينتظر القيادة من أي جهة في فلسطين " وبالطبع هذه شهادة تؤكد مدى نجاح المقاومة في جعل القضية حية في الوقت الذي ظن العدو الصهيوني مماتها.
وثالثا يمكننا رصد العديد من المؤشرات الايجابية التي تؤكد أن القضية الفلسطينية لازالت حية أمام كيان شاخ وهرم, لقد أثبتت المقاومة أنها كتلة واحدة صلبة لا يمكن تفكيكها, وأن سلاح المقاومة قد تطور بشكل كبير واقعيا وليس على مستوى التصريحات الإعلامية كما كان يظن العدو الصهيوني, فصواريخ المقاومة قد أصبحت قادرة على تغطية كامل التراب الفلسطيني المحتل, وقادرة على اختراق كل الأنظمة الدفاعية بما فيها القبة الحديدية الوهمية, وبالتالي بإمكانها الوصول للعمق الصهيوني وتهديد أمن واستقرار سكان المستوطنات الذين أصبح كل منهم يحمل جواز سفره استعدادا للرحيل بلا عودة.
لكن يظل المؤشر الأكثر أهمية في هذه الانتفاضة هو قيادة الشباب صغار السن الذين تربوا بالداخل الصهيوني للحراك والذين يحملون جنسية الكيان ويتعلمون ويعملون في مؤسساته وكان يعتقد العدو أنه قد تم إدماجهم, لكن هيهات فهؤلاء أثبتوا أن القضية لازالت حية في عقولهم ووجدانهم, والمذهل حقا أن هذا الوعي ليس موجودا فقط لدى الفتية بالداخل الفلسطيني فقط بل موجود لدى كل الفتيان والشباب في كل الأقطار العربية, فخلال حوار طويل قبل يومين مع نجلي يوسف الذي لم يكمل الأربعة عشر ربيعا وجدته ملماً بكل أبعاد القضية الفلسطينية ويقول "أن صراعنا مع العدو الصهيوني صراع وجود وليس حدود, وأن ما أوخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة, ولابد أن تستمر المواجهة مع العدو الصهيوني حتى اقتلاعه", هذه الروح تؤكد أن القضية الفلسطينية لازالت حية وأن مستقبلها مشرق وأن صراعنا مع العدو الصهيوني حتما سينتهي بنصر مبين, اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد