قد يبدو العنوان صادما للوهلة الأولى، وقد يعتقد البعض أنني قد قررت الابتعاد عن الكتابة السياسية والانخراط في الحديث عن البيئة وملوثاتها، وما تتركه من آثار على الصحة العامة للمواطنين، لكن الحقيقة غير ذلك..
فما أقصده هنا بالنفايات هي النفايات السياسية من نخب حاكمة يتم تدويرها وفقا لمصالح القوى الاستعمارية الغربية، وكذلك النفايات الثورية التي تقود الحراك الشعبي داخل أوطاننا، بما يحقق أيضا مصالح نفس القوى الاستعمارية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تلاعبت بحكام وشعوب المنطقة على مدار العقد الماضي، تحت دعاوى الربيع العربي المزعوم، بهدف تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، في حين أن الهدف الحقيقي الذي تسعى إليه هو تقسيم المقسم، وتفتيت المفتت، من أجل مزيد من الهيمنة والسيطرة وتكريس التخلف والتبعية لمجتمعاتنا العربية.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا كسبت مجتمعاتنا من وراء هذا الربيع المزعوم؟ سواء في المجتمعات التي انتهى بها الحراك أو المجتمعات التي مازالت تفور به؟
والإجابة تتطلب الوقوف أمام كل حالة على حدة، مع الأخذ في الاعتبار أن الحراك الشعبي الذي حدث ومازال في مجتمعاتنا العربية هدفه هو تغيير السياسات المؤدية لغياب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فالمشكلة ليست في النخب السياسية في ذاتها بل في نوعية السياسات التي تطبقها هذه النخب، وهل هذه السياسات تعمل لصالح الغالبية العظمى من الجماهير الشعبية أم أنها منحازة فقط لفئة محدودة من المواطنين داخل مجتمعاتنا العربية؟
ولنذهب الآن للتحقق مما حدث في كل قطر عربي خلال السنوات القليلة الماضية.
مع نهاية العام 2010 هبت أول حركة جماهيرية في تونس نتيجة حدث فردي وخلال أيام قليلة كان الحراك قد بلور هدفه في إسقاط النظام من أجل تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وبالفعل تم الإطاحة برأس "زين العابدين بن على" الذي كان يعمل طوال الوقت على تنفيذ الاجندة الأمريكية، عبر مجموعة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي أوصلت تونس للانفجار..
وخلال السنوات التسع التالية تم إعادة تدوير بعض نفايات النخب السياسية التابعة أمريكيا، وبالتالي لم تتحقق للشعب التونسي أيا من مطالبه في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وظلت كرامته الإنسانية مفقودة ذلك لأن النفايات الثورية التي قادت الحراك ظلت هي الأخرى حبيسة الدور المرسوم لها أمريكيا.
ومع مطلع العام 2011 انتقلت العدوى إلى مصر وخرجت بعض النفايات الثورية المصنوعة أمريكيا تطالب بنفس المطالب التي رفعت في تونس العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وخلال أيام قليلة أيضا تم الإطاحة برأس "حسني مبارك" رجل أمريكا الوفي الذي أدت سياساته عبر ثلاثة عقود كاملة إلى إفقار الغالبية العظمى من المصريين، وظهرت على السطح نفايات النخب السياسية التي قامت أمريكا بتدويرها لتكريس التخلف والتبعية، ولم يتحقق للشعب المصري أيًا من مطالبه في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية حتى بعد الإطاحة بالنفايات السياسية من سدة الحكم لأنهم ظلوا يهددون من وقت لآخر بنشر عدم الاستقرار عبر نفاياتهم الثورية.
وبعد أيام قليلة مما حدث في تونس ومصر تحركت النفايات الثورية وبنفس الشعارات في اليمن، وبالفعل نجحت في استبدال على "عبد الله صالح" رجل الولايات المتحدة الأمريكية الذي أدت سياساته إلى تدهور أحوال الغالبية العظمى من الشعب اليمني، وبعد "صالح" تم تدوير النفايات السياسية والثورية معًا حتى وصلت اليمن اليوم وبعد التدخل العسكري العربي إلى كارثة إنسانية من الصعب تجاوزها في المدى القريب.
وخلال أيام قليلة مما حدث في تونس ومصر واليمن كانت النفايات الثورية تنطلق في ليبيا بدون مبرر، رافعة نفس الشعارات وأدرك الأخ القائد "معمر القذافي" أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى للتخلص منه، وذلك من أجل تحقيق أطماعها في خيرات ليبيا، وقرر الصمود والتحدي وخلال ثمانية أشهر كانت قوات الناتو والنفايات الثورية قد اغتالت الرجل، وطفت على سطح المجتمع الليبي كل النفايات السياسية والثورية، ومازالت تتطاحن حتى اللحظة ومن الصعب عودة ليبيا إلى ما كانت عليه في المنظور القريب.
وبعد أيام قليلة من تصاعد الأحداث في ليبيا كانت النفايات الثورية قد تحركت وفق نفس السيناريو الأمريكي وتحت نفس الشعارات في سورية، والمبرر هنا هو كسر شوكة الدولة العربية الوحيدة التي لم تخضع يومًا للأجندة الأمريكية، ووقفت داعمة للمشروع القومي العروبي المقاوم للهيمنة الأمريكية، فحققت نموا حقيقيا بعيدا عن الاستدانة والتبعية..
وأدرك الرئيس "بشار الأسد" حجم المؤامرة على بلاده، وقرر التصدى للنفايات الثورية بالداخل والنفايات الإرهابية القادمة من كل بقاع الأرض، وعبر تسع سنوات من الصمود تم تدمير الآثار والحضارة وحرق الزرع وسرقة المعامل ونهب النفط والغاز، وتحتاج سورية لسنوات حتى تتمكن من إعادة ما تم تدميره عبر الحرب الكونية عليها.
والإجابة أصبحت واضحة فالنفايات السياسية والثورية مازالت الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بتدويرها داخل مجتمعاتنا العربية، فبعد الانتهاء من المهمة في دول الربيع المزعوم في موجته الأولى، بدأت النفايات الثورية تتحرك في السودان والجزائر لتدخلهما في دوامة عدم الاستقرار، وخلال الأيام القليلة الماضية قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإعادة تدوير النفايات السياسية والثورية في لبنان والعراق، بهدف كسر شوكة المقاومة.
فالحراك الدائر على مدار الشهر الماضي في لبنان لا يستهدف تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، بقدر ما يسعى إلى إعادة تدوير النفايات السياسية الموجودة في بعض مواقع السلطة التابعة أمريكيا وصهيونيا، بهدف استبعاد المقاومة ونزع الشرعية السياسية عنها، وبالتالى محاولة كسرها لضمان أمن الكيان الصهيوني الذي أصبحت المقاومة شوكة في حلقه.
لذلك يجب أن تعي الشعوب العربية حقيقة ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية، من إعادة تدوير النفايات السياسية والثورية داخل مجتمعاتنا العربية بهدف إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار لضمان استمرار التخلف والتبعية التي تحقق مصالحها، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد