عندما انطلقت موجة الربيع العربي المزعوم في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011 والتي تشكل المرحلة الأخيرة من مشروع الشرق الأوسط الكبير كانت وضعية الأمن القومي المصري في حالة متدهورة, حيث تمكن العدو الأمريكي وحليفه الصهيوني وخلال أربعة عقود من تغيير الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي المصري من خلال تشويه الرؤية في عقل الرئيس الجالس على مقعد الحكم, فبدلا من الرؤية الاستراتيجية التاريخية التي لا تقف على تأمين الحدود المباشرة والتي ترجمها الرئيس جمال عبد الناصر ببساطة في سياسات الدوائر الثلاث العربية والإفريقية والإسلامية وهى الرؤية الاستراتيجية التي استلهمها من قراءة متعمقة للتاريخ ووعي وفهم للجغرافيا.
فكل محيطنا عربي لذلك لابد من وحدة عربية فهى الأصل في الحفاظ على الأمن القومي المصري, ونهر النيل شريان الحياة للمصريين منابعه في إفريقيا فحتما لابد من مد جسور التعاون مع الدول الإفريقية سواء كانت عربية أو غير عربية, ويتقاطع ويتماس ويتداخل المحيط الإسلامي مع الدائرتين العربية والإفريقية لذلك تفرض الدائرة الإسلامية نفسها كامتداد طبيعي للحفاظ على الأمن القومي المصري, هذه هى الرؤية الإستراتيجية قبل أربعة عقود من حلول الربيع العربي المزعوم, والتي عبر عنها جمال عبد الناصر بوضوح لذلك اعتبر العدو الصهيوني هو عدونا الأول والقضية الفلسطينية هى قضيتنا المركزية, فالبوابة الشرقية المصرية كانت أحد أهم البوابات التي دأبت مصر عبر التاريخ على أخذ الحيطة والحذر منها فقد جاء منها الكثير من الغزاه, وعندما كانت مصر في مراحل ازدهار أو عندما كانت تشعر بالخطر القادم من الشرق كانت تتجه إلى بلاد الشام, وكانت أخر محاولة مصرية قبل زرع العدو الصهيوني هى حملة إبراهيم باشا 1831 حين وصلت القوات المصرية إلى وسط تركيا الحالية, لذلك لم يكن عبثا سعي جمال عبد الناصر لمحاولة خنق العدو الصهيوني عبر الوحدة مع سورية العربية.
وبرحيل جمال عبد الناصر بدأ العدو الأمريكي وحليفه الصهيوني في التخطيط لتغيير استراتيجية مصر للأمن القومي عبر ضرب الدوائر الثلاث التى رسمها جمال عبد الناصر, وكانت البداية بالاتفاق على توقيع اتفاقية سلام مزعوم مع العدو الصهيوني من أجل استرداد الأراضي المصرية المحتلة في سيناء, وعبر هذه الاتفاقية حدث خلل كبير في دوائر الأمن القومي المصري حيث قطعت العديد من دول الدوائر الثلاث العلاقات مع مصر وأصبحت مصر محاصرة داخل حدودها الجغرافية, فالعلاقة مع الدوائر الثلاث العربية والإفريقية والإسلامية ضربت في مقتل خاصة وأن الدول الحدودية في الغرب والجنوب ( ليبيا والسودان ) هى دول عربية – إفريقية – إسلامية, والدولة الحدودية في الشرق (فلسطين ) عربية – إسلامية محتلة وما خلفها سواء عربي – إسلامي أو إسلامي فقط توترت علاقات مصر بهم, وعلى الرغم من محاولات مبارك لترميم العلاقات المتصدعة مع الدائرة العربية إلا أنه لم يتمكن من ترميم العلاقات الإفريقية والإسلامية وظلت استراتيجية الأمن القومي المصري في مستوياتها المنخفضة المتمركزة في محيطها الجغرافي.
وجاء الربيع العربي المزعوم واستهدفت مصر وكل محيطها الجغرافي, وكان لابد من التعامل مع الموقف بوعي وهدوء, وفي تلك اللحظة الحاسمة تقدم الجيش المصري ليكون المسؤول الأول للدفاع عن الدولة المصرية والحفاظ على أمنها القومي, وكانت المهمة صعبة وشاقة فقد اختطفت مصر من قبل جماعة إرهابية فكانت أولا معركة استرداد الوطن المختطف وتمكن الجيش ومن خلفه الشعب من استعادة الوطن في 30 يونيه 2013, وثانيا بدأت مصر في إدارة ملف الأمن القومي المشتعل عبر كل حدودها وهى تدرك أن الأعداء يتربصون بها وبكل خطوة تخطوها نحو تأمين حدودها المشتعلة, فالجميع ينتظر موقف مصر من سورية وليبيا والسودان وأثيوبيا وهى الملفات التى يمكن توريط مصر في حرب بسببها وهى غير جاهزة بسبب حربها مع الإرهاب بالداخل.
وهنا قررت مصر إدارة ملفات الأمن القومي بوعي وهدوء فهي مع سورية شعبا وجيشا وقائدا دون أن تعلن عن ذلك نظرا لحساسية موقفها الداخلي, لذلك كان ومازال هناك تعاون وتنسيق أمني ومخابراتي على أعلى مستوي تجلى في الزيارات المتبادلة وأخرها الأسبوع الماضي بين اللواء عباس كامل واللواء علي المملوك, ومنعا لأى مزايدات فالرئيس بشار الأسد نفسه صرح أكثر من مرة أنه يقدر موقف مصر وحساسية وخطورة موقفها, وفيما يتعلق بليبيا فقد وقفت مصر داعمة للمشير خليفة حفتر الذى يسعى للسيطرة من أجل القضاء على الجماعات الإرهابية والحفاظ على ليبيا موحدة على الرغم من شراسة المعركة, وكان خيار مصر بدعم حفتر من منطلق سيطرته على المنطقة الشرقية الليبية المتاخمة للحدود الغربية المصرية, أما ملف سد النهضة والذي يتقاطع مع السودان وأثيوبيا فقد تعاملت مصر معه بوعي وهدوء شديد فحاولت دائما إطفاء النيران المشتعلة بالداخل السوداني واستنفذت كل مراحل التفاوض مع أثيوبيا.
وفي الوقت الذي كانت مصر تدير فيه هذه الملفات الشائكة دون تهور سياسي كانت أيضا تقوم بعمليات هامة للغاية بالداخل للحفاظ على الأمن القومي المصرى وأول هذه العمليات هى تأمين الحدود الشرقية التي عبر منها الإرهابيين فكانت المواجهة معهم على كامل جغرافية سيناء وفي الوقت الذي كان الجيش يجفف منابع الإرهاب هناك كانت قد انطلقت عمليات تنموية واسعة في هذه البقعة الجغرافية مترامية الأطراف والتي اهملت لسنوات طويلة وهى أحد أساليب الدفاع عن الأمن القومي المصري من البوابة الشرقية المتاخمة لفلسطين المحتلة, وفي نفس التوقيت كان الجيش المصري يشيد قاعدة محمد نجيب العسكرية على مساحة 18 ألف فدان في مدينة الحمام في مرسى مطروح والتي وصفت بأنها أكبر قاعدة عسكرية في أفريقيا والشرق الأوسط والتي استغرق تشيدها عامين وافتتحت في 22 يوليو 2017 لحماية حدود مصر الغربية, ثم قام الجيش المصري بتشييد قاعدة برنيس العسكرية على مساحة 150 ألف فدان في جنوب شرقي البحر الأحمر لتصبح أكبر قاعدة عسكرية في أفريقيا والشرق الأوسط على الإطلاق وقد تم تشيدها خلال عام واحد فقط وتم افتتاحها في 15 يناير 2020 لحماية حدود مصر الجنوبية, ومن هنا يتضح كيف تتعامل مصر مع أمنها القومي بوعي وهدوء وسرية تامة, وهناك العديد من التساؤلات المعلقة ستجيب عنها الأيام القادمة, اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد