تحليل الدكتورة/ نادية حلمى
أستاذ مساعد العلوم السياسية جامعة بنى سويف- الخبيرة فى الشؤون السياسية الصينية والآسيوية
- العناصر الرئيسية فى التحليل
- أولاً: إنجازات ثورة الفاتح بين التمكين وتقرير المصير والتخلص من التبعية للخارج
- ثانياً: تأسيس (النظرية العالمية الثالثة) بقيادة القذافى، وإعلان سلطة الشعب فى ليبيا
- ثالثاً: الدور التاريخى لمصر وللقيادات السياسية المصرية للزعيمين (جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسى) فى الحفاظ على إستقلالية القرار الليبيى، ومنطلقات ثورة الفاتح الليبية
- رابعاً: مقارنة بين أشكال التدخل الأجنبى والغربى فى ليبيا (فى الوقت الحالى وما قبل ثورة الفاتح الليبية)، وأهمية ذلك للأمن القومى المصرى فى عهد الرئيس "السيسى"
يأتى الإحتفال بذكرى "ثورة الفاتح" فى (الأول من سبتمبر) كل عام والتى قادها الزعيم الليبى الراحل "معمر القذافى" فى بداية شهر سبتمبر عام ١٩٦٩، تماشياً مع تقاليد قديمة للشعب الليبى، تقتضى بضرورة التخلص من التبعية للخارج وتقرير المصير، وإحترام سيادة وإستقلال الوطن. وبالتأسيس على ذلك، نجد أنه قبل أكثر من ٥٠ عاماً من الآن، كانت ليبيا تحت حكم الملك (محمد إدريس السنوسى)، مع ما عرف عنه من التبعية للخارج وعلاقاته غير المفهومة للغرب مما أثار إستياء أبناء الشعب الليبى وضباطه لتغيير الوضع وإستعادة حكم البلاد مرة أخرى وتحويلها من ملكية إلى جمهورية بقيادة "القذافى" الذى نجح مع مجموعة من ضباطه فى إستعادة حكم البلاد من قبضة الملك "السنوسى" وأتباعه مرة أخرى والعودة بليبيا إلى أحضان الشعب الليبى وأبنائه من الطبقة المتوسطة، ففى اليوم الأول من سبتمبر حمل الظهور الكبير للعميد "القذافى" وقيادات جيشه تغييراً كبيراً على الساحة السياسية الليبية مما غير وجه الدولة الليبية بشكل كبير بعد النجاح فى التخلص من الهيمنة والتبعية للخارج، وظلت تلك واحدة من أهم الأسس التى أحترمها كثيراً أبناء الشعب الليبى.
ومن هنا، حاولت الباحثة المصرية الرجوع للتاريخ الليبى وتاريخ ثورة الفاتح الليبية، والتأسيس عليها، بوضع عدد من الدروس المستفادة من (ثورة الفاتح فى ليبيا)، وأهميتها فى التخلص من التبعية الغربية وتقرير المصير لأبناء الشعب الليبى، ووقوف القيادات المصرية تأييداً لمنطلقاتها الوطنية البحتة فى عهد الرئيسان (جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسى)، بتشابه خبراتهما وخلفياتهما العسكرية، مع تشابه ظروف التدخل الغربى والأجنبى والإقليمى الآن فى الداخل الليبى، ووقوف كافة القيادات المصرية بجوار أبناء الشعب الليبى حفاظاً على وحدته ومقدراته الوطنية ولمنع إنتشار الحركات والميليشيات الإرهابية المتطرفة على الحدود بين مصر وليبيا بما يضر بأبناء البلدين.
- ومن هنا، ستقوم الباحثة المصرية بتحليل الأدوار التالية لما قبل ثورة الفاتح الليبية وصولاً للوقت الراهن، ومقارنة الأدوار التاريخية للقادة المصريين فى تأييدهم لثورة الفاتح، وتشابه مواقف الزعيمين (جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسى) فى قراراتهما التاريخية لتأييد أبناء الشعب الليبى، من خلال فهم كافة الأبعاد الآتية:
- أولاً: إنجازات ثورة الفاتح بين التمكين وتقرير المصير والتخلص من التبعية للخارج
نجح الزعيم الراحل "القذافى"، والذى كان قائداً لحركة (الضباط الوحدويين) فى الجيش الليبى، بالسيطرة على الإذاعة الليبية فى "بنغازى" ومحاصرة الملك "السنوسى"، ومن ثم إعاد السلطة مرة أخرى لأبناء الشعب الليبى، ثم تم بعدها إعلان الجمهورية فى ليبيا، وتولى "معمر القذافى" الحكم، بعد أن تنازل ولى العهد الليبى عن العرش، بينما كان الملك "السنوسى" نفسه فى رحلة علاجية بتركيا.
ودعمت العديد من الدول العربية (ثورة الفاتح) الليبية بقيادة العميد الراحل "القذافى"، ومنها: (مصر، سوريا، العراق، السودان)، وساعدت تلك الدول بإعلامها وقياداتها على إعادة ضبط الأمور الداخلية فى الدولة الليبية بعد وقت قليل من الإطاحة بحكم الملك "السنوسى" والتخلص من الإملاءات الغربية على السياسة الليبية، وتحقيق إستقلال القرار السياسى الليبى.
وهنا نجد، أن من أهم إنجازات (ثورة الفاتح) أنها مكنت الليبيين من تقرير مصيرهم بعيداً عن التبعية للخارج والتخلص من الهيمنة الأجنبية فى البلاد، ومهما كانت قدرات كل القيادات التي عملت فى عهد "القذافى" فلن يستطيع أحد القول إن أياً منهم كان مفروضاً من الخارج، أو معيناً لخدمة مصالح دول أخرى، كما هو الحادث الآن من إلقاء كل طرف بتهم على عاتق طرف آخر من الولاء لليبيا، أو بالإذعان لشروط أجنبية لصالح تركيا والإتحاد الأوروبى وغيرها.
وهذا العام، تمر ذكرى ثورة الفاتح فى ليبيا على وقع الحرب الدائرة بين (حكومة الوفاق والجيش الوطنى الليبى)، فى معركة لم يعرف حتى الآن من يحسمها أو يوقفها، مع توجيه كل طرف لإتهامات للآخر.
ولكن يجب علينا الإعتراف بأنه بعد مرور أكثر من خمسين عاماً للثورة الليبية، فقد إستطاعت تغيير وجه ليبيا للأبد لمدة إقتربت من ٤٢ عاماً هى فترة حكم الراحل "القذافى"، ولكى نكون منصفين فإن لكل حقبة سلبياتها وإيجابياتها، وبمناسبة ذكرى ثورة الفاتح فى ليبيا الشقيقة، فقد عاد إسم العقيد "معمر القذافى" هذه الأيام متداولاً بشدة إلى شوارع ليبيا، حيث بدأ خروج مواطنون ليبيون، للإحتفال بذكرى "ثورة الفاتح" التى بدأت عام ١٩٦٩، رافعين الأعلام الليبية، بينما رفع بعضهم صوراً للراحل "القذافى" كقائد للثورة الليبية.
- ثانياً: تأسيس (النظرية العالمية الثالثة) بقيادة القذافى، وإعلان سلطة الشعب فى ليبيا
أعلن القذافى فى عام ١٩٧٦ قيام ما يعرف بإسم (سلطة الشعب فى ليبيا)، وتبنى ما عرف بـ "النظرية العالمية الثالثة"، والتى تقوم منطلقاتها حسب وجهة نظر "القذافى" مدونة فى كتابه على:
(الإسلام، الإشتراكية، الإنسانية، والتقدم)
ودونت هذه النظرية فى (الكتاب الأخضر)، والذى أصدره "القذافى" وأوضح من خلاله فكرة السلطة والنظرية السياسية الجديدة للقيادة الليبية ولأبناء الشعب الليبى ذاته.
وعلى الرغم من قيام ثورة فبراير ضد "نظام القذافى" نفسه فى ١٥ فبراير ٢٠١١، وقتله على أيدى متظاهرون فى (مدينة سرت الليبية) يوم ٢٠ أكتوبر من عام ٢٠١١، لتنتهى "مسيرة الفاتح" فى ليبيا والتى أثرت كثيراً فى جميع سياساتها اللاحقة ربما حتى الآن، إلا أن العديد من الليبيين مازالوا يحتفظون فى الذاكرة الوطنية والتاريخية بمنجزات عديدة لثورة الفاتح الليبية، خاصةً فى بداياتها الأولى للتخلص من التبعية إلى الغرب، وتحقيق الإستقلالية فى القرار السياسى الليبى.
وعلى الجانب الآخر، وجدنا حرص نائب رئيس الحكومة الليبية الحالى (حسين عطية عبدالحفيظ القطرانى) خلال أدائه اليمين الدستورية أمام البرلمان الليبى يوم ١٦ مارس ٢٠٢١، صخباً بين النواب الليبيين بعدما أقسم على أن يظل "مخلصاً لثورة الفاتح " التى سبقت تولى الزعيم معمر القذافى السلطة، وهو الأمر الذى يمكن تفسيره بشكل آخر، بأن هناك (قاعدة عريضة من المؤيدين للثورة الليبية) حتى وقتنا الحالى.
- ثالثاً: الدور التاريخى لمصر وللقيادات السياسية المصرية للزعيمين (جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسى) فى الحفاظ على إستقلالية القرار الليبيى، ومنطلقات ثورة الفاتح الليبية
إن لليبيا أهمية أمنية وجيوسياسية كبيرة للحفاظ على الأمن القومى المصرى من ناحية الغرب، خاصةً فى ظل التكالب الأجنبى والغربى للتدخل فى الشؤون السياسية الليبية.
وتولى القيادات السياسية والعسكرية المصرية أهمية كبيرة للدولة الليبية، وأهميتها الشديدة إقليمياً ودولياً فى (المجال الإستراتيجى)، وأمام ذلك الأمر تكالبت كبرى الدول الأوروبية من أجل السيطرة على القرار السياسى الليبى تاريخياً وحتى الآن، مثل: (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا)، بالإضافة إلى (الولايات المتحدة الأمريكية، تركيا)، وغيرها. وهذا التكالب الأجنبى والخارجى حدث قبل وبعد إستقلال ليبيا عام ١٩٥٢، فمثلاً منذ عام ١٩٤٩ قامت بريطانيا بإجراء إتفاق مع كل من (إيطاليا وفرنسا)، هذا الإتفاق نص على إعطاء (مدينة برقة) إلى بريطانيا بدون وجه حق، وكذلك إعطاء (مدينة فزان) إلى فرنسا لقربها من (تونس) إحدى المستعمرات الفرنسية حيئذ، وأخيراً الإتفاق على إعطاء (مدينة طرابلس) لإيطاليا. هذا الإتفاق تم تحطيمه تماماً بسبب الموقف المصرى تجاهه والرافض له، فقد قامت مصر بمجهود كبير فى كافة المحافل الدولية، مثل: (الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، حركات عدم الإنحياز والتحرر الوطنى) حتى حصلت ليبيا على الإستقلال، وحرصت بريطانيا بعدها على التوصل لإتفاق مباشر مع ليبيا يتعلق بالتحالف والصداقة، هذا الأمر لقى قبولاً من جانب النظام الليبى، وبالأخص (الملك ادريس السنوسى والدكتور محمود المنتصر رئيس الحكومة الليبية) وقتها. وفى المقابل كانت مصر قد نجحت فى إنهاء حكم النظام الملكى فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، بواسطة الزعيم الراحل) جمال عبد الناصر) قائد حركة ٢٣ يوليو، والذى حاول إحباط الإتفاق المشار إليه الذى تم بين (ليبيا وبريطانيا)، وضم هذا الإتفاق أو تلك المعاهدة (سبعة مواد)، وكان معها: (ملحق إتفاق عسكرى ومالى)، تم توقيعها بين ليبيا وبريطانيا فى ٢٩ يوليو ١٩٥٣. وخلال تلك الفترة التى أعقبت توقيع (معاهدة التحالف الليبية البريطانية) أرادت مصر التدخل لإنهاء الأزمة الإقتصادية داخل ليبيا، إلا أن هذا الأمر قوبل برفض عاصف من جانب كل من الملك (إدريس السنوسى) وبريطانيا.
وثبت جدية الموقف المصرى الوطنى الرافض لتبعية القرار السياسى الليبى لبريطانيا بواسطة تلك المعاهدة مع (الملك السنوسى) من أجل السيطرة على كافة المجالات فى الدولة الليبية، مثل: النواحى السياسية والإقتصادية والإجتماعية وكذلك الثقافية. وكانت بريطانيا خلال عام ١٩٥٤ على موعد مع صراع وصدام بدأته مع الزعيم المصرى الراحل (جمال عبد الناصر) داخل ليبيا، وإفتعلت ضغوطاً من أجل إنهاء تواجد مصر داخل ليبيا.
واصلت بريطانيا ضغوطها الشديدة وصدامها مع النظام المصرى بقيادة "عبد الناصر" نتيجة حرصه على الحفاظ على الإستقلالية السياسية الليبية فى مواجهة بريطانيا، مثل مساهمتها فى (حلف بغداد وتخليها عن تمويل مشروع السد العالى) عام ١٩٥٦، وكان نتاج تخلى بريطانيا عن هذا الأمر هو قيام الزعيم (عبد الناصر) بتأميم شركة قناة السويس فى يوليو ١٩٥٦.
والجدير بالذكر هنا، هو تحفظ النظام الليبى بقيادة "الملك السنوسى" تجاه (تأميم شركة قناة السويس)، بسبب (معاهدة التحالف الليبى مع بريطانيا) عام ١٩٥٣، لذلك أبدى موقفاً سلبياً تجاه الهجوم الذى حدث على الأراضى المصرية فى أكتوبر ١٩٥٦، من جانب دول العدوان الثلاثى على مصر، وهى: (بريطانيا، فرنسا، إسرائيل)، وإستمر النظام الليبى فى موقفه هذا أثناء إجتماعات القمة العربية، فقد تعلل الملك (إدريس السنوسى) بأن صحته لا تسمح للحضور.
وهنا نجد التغير الكبير فى الداخل الليبى بإكتشاف البترول لأول مرة بأراضيها عام ١٩٥٩، وكان نتاج هذا الإكتشاف الكبير، هو (إنهاء الأزمة الإقتصادية) التى ألمت بها منذ عام ١٩٤٥. وإستمر النظام الليبى فى ممارساته السلبية منذ عام ١٩٦٤، وتفشى الفساد داخل جنبات الدولة الليبية، كما رفض وجود الثقافة المصرية داخل ليبيا. ومع تعرض مصر لنكسة يونيو ١٩٦٧، إزدادت الضغوط الخارجية على ليبيا ومصر، ولهذه الأسباب قاد الزعيم (معمر القذافى) قيادات الجيش الليبى لإنهاء (حكم الأسرة السنوسية) فى حركة حصلت على تأييد كافة أبناء الشعب الليبى عرفت بثورة الفاتح من سبتمبر ١٩٦٩.
وإمتداداً للدور المصرى الإيجابى فى الداخل الليبى وتقاطع المراحل التاريخية والسياسية والأمنية لليبيا مع أمن مصر، فمن هنا، جاء تأكيد الرئيس المصرى (عبد الفتاح السيسى) بشكل دائم وواضح على:
"دعم مصر الكامل والرئيس السيسى للمجلس الرئاسى وحكومة الوحدة الوطنية الليبية فى مهامهما خلال المرحلة الإنتقالية، بهدف "إستعادة ليبيا لأمنها وإستقرارها، وصولاً إلى عقد الإنتخابات الوطنية المتفق عليها فى موعدها خلال شهر ديسمبر المقبل، بإعتبار أن أمن ليبيا هو "إمتداد للأمن القومى المصرى"
وهنا، يتشابه الرئيس (السيسى) مع الزعيم الراحل (جمال عبد الناصر) فى تأكيدهما على ضرورة عودة الإستقرار فى الداخل الليبى، وتوحيد الشعب الليبى فى وجه جميع التدخلات الخارجية والإقليمية، ولاسيما التركية بما يضر بأمن مصر وحدوده من ناحية الغرب مع ليبيا.
وهذا يذكرنا بالتمهيد والتحضير لثورة الفاتح الليبية وموقف الرئيس الراحل "عبد الناصر" المؤيد لها وللشعب الليبى، وموقف الرئيس "السيسى" فى تأييد ثورة الشعب الليبى، وضرورة توحيده من أجل الإستحقاق السياسى.
مع تأكيد الرئيس (السيسى) على عقد الإنتخابات الليبية فى موعدها بما يعد "خطوة أساسية على طريق التسوية السياسية للأزمة الليبية، من خلال تفعيل الإرادة الحرة للشعب الليبى، وفى إطار دعم مصر الكامل لليبيا فى مسارها السياسى، على إعتبار أن أمنها القومى يمثل إمتداداً للأمن القومى المصرى".
فمن هنا، تشابهت القيادات السياسية المصرية فى تأييد أبناء الشعب الليبى ووقوفها ورائه للحفاظ على مقدرات أبنائه وطوائفه، لأهمية الجانب الليبى لأمن مصر وحدوده.
- رابعاً: مقارنة بين أشكال التدخل الأجنبى والغربى فى ليبيا (فى الوقت الحالى وما قبل ثورة الفاتح الليبية)، وأهمية ذلك للأمن القومى المصرى فى عهد الرئيس "السيسى"
تحظى ليبيا فى الوقت الحالى بأهمية كبيرة إلى مصر، وذلك فى الذكرى الثانية والخمسين لثورة الفاتح بالنسبة للأمن القومى المصرى فى عهد الرئيس "السيسى"، فى بدايات مشابهة لما حدث من تأييد مصرى بقيادة الزعيم الراحل "جمال عبد الناصر" لثورة الفاتح الليبية بقيادة زعيمها الوطنى حينئذ "معمر القذافى".
وتعيش ليبيا فى الوقت الحالى ما بين (موضع تنافسى بين الدول الغربية والكبرى)، ولا تعكس مواقف تلك الدول مواقفها الحقيقية إزاء التدخل فى الشأن الداخلى الليبى تحقيقاً لمصالحها، حيث ترغب فى الظهور بمظهر الراغب فى الحوار السلمى.
وهنا يأتى الحديث بالأساس حول (قطر وتركيا)، وإختلاف هدفهما فى التدخل فى الشأن الداخلى الليبى مع أهداف ومصالح الأمن القومى المصرى بقيادة الرئيس السيسى. حيث يرى البعض في الأزمة الليبية جبهة أخرى للخلاف بين القوى الكبرى، ولهذا تسعى تلك الدول إلى التأثير على سير الأحداث وفرض نفوذها فى ليبيا، وهو الأمر الذى يؤثر حتماً على أمن مصر، بصفة تقاطع حدود ليبيا مع أطراف مصر من ناحية الغرب. خاصةً مع تكرار مهاجمة الحكومة الليبية الشرعية والمتحدث بإسم قواتها العسكرية لقطر وتركيا بسبب "دعمهما الجماعات الإرهابية"، فمن المؤكد أن واحداً من أهداف (الحكومة الشرعية الليبية وحكومة الوفاق الوطنى) هو إنهاء أو إضعاف العلاقة التى تربط (قطر وتركيا) بالأحزاب والحركات السياسية فى العاصمة طرابلس وغيرها من الأطراف الداخلية فى ليبيا، ومع تواجد (الدور القطرى والتركى) ومحاولة مد نفوذهما داخل ليبيا، فإن ذلك يؤثر على الدور الذى تقوم به (مصر والإمارات) فى الشرق الليبى، لإعداد الخارطة السياسية داخل ليبيا وإحداث التوافق بين أبناء الشعب الليبى والمحافظة على الحدود المصرية مع ليبيا من ناحية الغرب.
وتشكل المخاطر من دول الجوار الليبى أحد العوامل المؤثرة على الأمن الإقليمى والقومى المصرى فى الوقت الحالى، فالجيش الجزائرى على سبيل المثال مشغول بترتيب الأوضاع الداخلية فى بلاده، ومن هنا، فوجدت مصر نفسها فى حاجة للعودة إلى (مرحلة ثورة الفاتح الليبية) لمعارضة تلك التحركات الغربية والإقليمية وبالأخص التركية، خوفاً من تداعيات هذا على الأمن القومى المصرى من إنتشار بعض الميليشيات والحركات الإرهابية المتطرفة على الحدود بين البلدين، وخصوصاً في ما يتعلق بتسلل عناصر إرهابية لها عبر حدود مصر مع ليبيا. والرئيس السيسى يحاول أن يعيق تحرك تلك الحركات الإرهابية ناحية الحدود مع مصر، خاصةً مع إنشغال حكومتها بالوضع الداخلى، مما أعطى الفرصة لبعض الجماعات المتطرفة بالتحرك على حدود مصر.
فتلك التطورات التى تشهدها ليبيا تثير قلقاً بالغاً من ناحية الجانب المصرى والرئيس السيسى لجهة مستقبل الدولة الليبية، ووضعيتها فى المحيط الإقليمى، خصوصاً نطاق الجوار المباشر. فسبق أن فاجأت محافظة برقة (شرق ليبيا) مصر والعالم، بإعلان نيتها التحول إلى إقليم مستقل. ورغم أن المشكلة تصاعدت بشكل مفاجئ فى السنوات الأخيرة، إلا أن بذورها كانت قائمة فى الوضع الليبى قبل ذلك، الأمر الذى يجعل التعامل معها مصرياً أمراً معقداً وملحاً فى ذات الوقت. بيد أن الظاهر حتى الآن من المعالجة الرسمية لذلك التطور من ناحية مصر والرئيس المصرى "السيسى"، ينم عن إدراك لحجم الخطر الكامن فيه، أو ربما يعكس الخطر عن إهمال التعامل مع هذا الوضع المضطرب كما ينبغى.
وتدرك القيادة السياسية المصرية للرئيس السيسى، بأن جميع الأطراف فى ليبيا فى حاجة ماسة إلى عقد (جلسة حوار وطنى) حول التوزيع العادل للمقدرات الوطنية فى الدولة الليبية وإنهاء الخلافات القائمة، لأن هذه المسألة تمثل أحد العوامل الرئيسية للأزمة الداخلية الليبية بما لها من تأثير عميق على أمن مصر، والحل الوحيد لمعالجتها هو الإلتزام بالشفافية من جانب أبناء الشعب الليبى، وتجدد مصر الدعوة لكل السلطات الليبية وأبناء الشعب الليبى للعمل مع الجهات الوطنية المعنية لتعزيز الشفافية وحل جميع تلك الأزمات القائمة، وذلك خدمةً لمصالح جميع الأطراف.
وتحاول مصر عقد جلسات حوار وطنى مع القيادات الشرعية الليبية فى ظل إنتقال المواجهة العسكرية بين الفرقاء الليبيين إلى تبادل ضرب القواعد الخلفية بينهما لعرقلة نفوذ بعضهما البعض بمساعدة بعض القوى الإقليمية المناوئة لمصر كتركيا، فالوقائع العسكرية فى الميدان تشير إلى تأثير كل ذلك على أمن مصر وحدودها المتقاطعة مع الغرب الليبى وأمن البحر المتوسط وقضايا اللاجئين والهجرة غير الشرعية من بلدان شمال أفريقيا وليبيا إلى أوروبا عبر شواطئها، وهو الأمر الذى بات محل نقاش دائم بين الرئيس السيسى وبين القادة الأوروبيين فى الإتحاد الأوروبى لما لمصر من دور ونفوذ إقليمى كبير فى منطقة شمال أفريقيا، ونجح الرئيس السيسى بالفعل مع القادة الليبيين فى إحراز تقدم ملموس فى عدد من تلك المسائل، فى حين باتت التحديات الكثيفة فى الداخل الليبى موضع إهتمام كبير من جانب مصر، ولاسيما مع محاولة بعض القوى الإقليمية اللعب على محاولة إسقاط العاصمة طرابلس بما يضر بأمن مصر ضرراً شديداً.
وأعتقد بأن إحتفال الليبيين هذا العام فى الأول من سبتمبر بالذكرى الثانية والخمسين لحركة سبتمبر، المعروفة بإسم "ثورة الفاتح"، يوجب علينا مناقشة كل ما لها وما عليها، وما ترتب على ذلك من تداعيات أيام حكم الراحل "القذافى" وعلاقاته التاريخية بالزعماء المصريين (جمال عبد الناصر وحسنى مبارك)، ثم لاحقاً فى ما بعد رحيل "القذافى" فى عهد الرئيس "السيسى"، وما بعد ثورة فبراير ٢٠١١ فى ليبيا، وتأثيراتها الإقليمية والدولية، بما يعيد للأذهان تشابه تلك الفترات فى التاريخ الليبى وتقاطعها مع الشأن المصرى وأمن مصر، وعلاقات القيادات السياسية بين البلدين.