بقلم : م. حسام محرم
المستشار الأسبق لوزير البيئة
أقام الله تعالي ملكوته علي نواميس وقواعد لاتستقيم الحياة بدونها، فإذا تعطلت إحداها إرتبكت مسيرة الحياة، ومن بينها آلية الإصلاح في الأرض بقدر إستطاعة كل مكلف في المجتمع. ووفقاً لتلك النواميس فإن السعي بالإصلاح يعد شرطاً لبقاء الأمم، كما يعد التفريط فيه سبباً لهلاك وإنهيار الحضارات. يقول الله تعالي : "وماكان ربك مهلك القري بظلم وأهلها مصلحون". ويبدأ الفساد في المجتمعات من نقاط ضعف في كيان الدولة أوالمجتمع أو كليهما ثم يتمدد ويتغلغل في ظل ضعف الآليات المناعية أو غيابها بالكلية.
وعلي المستوي الشخصي، كنت واحداً ممن دفعت بهم الظروف في أتون مواجهة مع شبكة فساد ومصالح لم أكن أتخيل يوماً أن أعايش ما عاينته في هذه التجربة الغريبة، والتي أثبتت لي أن الفساد والجريمة المنظمة قد إنتظم في إطار شبكي موسع عابر للقطاعات. وأود في هذا المقال أن أطلع القراء علي جانب جديد من جوانب تلك المواجهة المفتوحة مع شبكة الفساد منذ عقد الألفينات وإشتد منذ عام 2016 علي وجه الخصوص. وقد قمت برفع دعوي قضائية أمام المحكمة الإدارية العليا برقم 68675 لسنة 68 للطعن علي حكم قضائي بتوقيع خصم عشرة أيام صادر بحقي بناء علي بلاغ كيدي من أحد العاملين في وزارة البيئة. وقد تضمنت مذكرة الطعن ما يتجاوز الإطار الإداري الشخصي الضيق للقضية، حيث أشارت إلي وجود ما يمكن وصفه خلايا عنقودية (أو تنظيمات غير رسمية) داخل بعض أجهزة الدولة وفعاليات المجتمع، والتي تتكون من كوادر وعناصر تربطها مصالح ويجمعها إتفاق جنائي يجسد مصالحهم ويخالف روح ونصوص القانون ويتعارض مع مصالح المؤسسات والمواطنين.
وتشير الشواهد إلي أن هذه الخلايا تنتظم في شبكة متكاملة أو ما يشبه "تنظيم سري" يتولي عدة مهام ومن بينها ممارسة الفساد وحمايته ومحاربة الإصلاح والمصلحين إذا إقتضت مصالح بعض أطراف تلك الشبكة ذلك، علي غرار ما حدث مع "وزير الداخلية الإصلاحي الأسبق / أحمد رشدي" الذي تآمرت عليه لوبيات الفساد لإظهاره بمظهر الفاشل وفاقد السيطرة للتخلص منه بسبب محاربته للفساد وعصابات الإتجار في المخدرات. كما تشير الشواهد إلي إختراق هذه الشبكة القذرة من جانب جهات خارجية تعتبر أن عصابات الفساد والجريمة المنظمة بمثابة قفازات لإخفاء دورها في التخريب والنهب، مما يجعلنا نصف تلك الشبكات بأنها بمثابة "طابور خامس".
وقد وصفت في مذكرة الطعن بأنني تعرضت لإستهداف ممنهج منذ عقد الألفينات بشكل مستتر، وتصاعدت أحداثه في 2013 بسيناريو يعد نموذج مصغر لما حدث مع "الوزير / أحمد رشدي" وغيره من المصلحين من إفتعال وتصيد أخطاء لإظهار أي مصلح بأنه فاشل أو غير مسيطر ومن ثم حرقه مهنياً أو سياسياً، في الوقت الذي يحظي فيه رجالهم وأتباعهم بالتدليل والرعاية والدعم والتصعيد بلا سقف بغض النظر عن الأحقية والكفاءة والأهلية.
وبإستقراء الأحداث والقرائن، فإنه يمكننا أن نطرح إحتمال أن هذا التنظيم السري هو نفسه الذي نشأ قبل يناير 2011 لأداء مهام معينة من بينها حماية الفساد والمفسدين (في مقابل إتاوات ومنافع أخري) وهي المهمة التي إستمر في القيام بها بعد تزايد مخاوف رجال ما قبل 2011 علي مصيرهم بعد أن فقدوا مواقعهم في رأس السلطة بعد ثورة يناير، مما دفع الفاسدين للإعتماد علي رجالهم في الصف الثاني والخضوع لرعاية جدد لهذه الشبكات. وقد تضخم هذا التنظيم السري خلال السنوات العشرة الأخيرة بسبب تزايد وتيرة المحاكمات المتعلقة بالفساد بعد أن زالت عنهم الحماية التي كانوا يتمتعون بها من قبل. ومن واقع تجربتي فإن ذلك التنظيم السري يتكون من الآلاف من المرتزقة المدربين والمجهزين بتقنيات عالية للتتبع والتجسس والقرصنة وكذلك أسطول من مختلف أنواع المركبات والدراجات النارية وغيرها من الإمكانيات والتجهيزات فضلاً عما لا نعرفه.
وقد أشرت في المذكرة إلي تعرضي لأكثر من محاولة تصفية جسدية أهمها محاولة إغتيال بعطر سام خلال 2017 داخل السكن في التجمع الأول، ومحاولة أخري خلال يناير 2022 لتفجير محطة بنزين في المعادي والتي يتم المرورعليها يومياً في رحلة الذهاب والعودة من العمل. وأشار إلي أنه تقدم بالعشرات من البلاغات الرسمية والإفادات الودية للعديد من الجهات من بينها الرقابة الإدارية وجهات شرطية متعددة وبوابة الشكاوي الموحدة التابعة لمجلس الوزراء وجهات وشخصيات أخري، حيث وصف في هذه البلاغات تفصيلاً الأساليب الغريبة والشيطانية التي تستخدمها شبكات المرتزقة في محاصرة وتحييد المستهدفين من جانب اللصوص ومحاسيبهم حيث يتم حصارهم وبعض ذويهم سواء في محيط سكنهم وفي داخل أماكن عملهم ومحاولة الوقيعة وزرع الشك بينهم وبين المحيطين بهم للتجييش والتحريض والإيذاء والنفسي والاجتماعي والمالي وغيرها من أوجه الايذاء والتدمير البطيء والمستتر منذ سنوات وحتي تاريخه (بدرجات متفاوتة) لإستهداف ممنهج بهدف الدفع في إتجاه اليأس والإنسحاب والسلبية وربما الإنتحار كما يفعلون مع بعض من المستهدفين والمصلحين في المجتمع.
كما أشرت في المذكرة إلي مبررات وصف البلاغ المقدم ضدي بالكيدية حيث أشار إلي أن الأمر كان بخلاف ماورد في البلاغ حيث كنت أسعي إلي حماية مناخ الإستثمار من تبعات سوء التصرف من جانب بعض صغار الموظفين مع شركة صناعية يملكها مستثمر أجنبي بعد أن هدد بالإنسحاب من السوق المصرية ورفع دعوي دولية بالتعويض ضد الحكومة المصرية وما قد يسببه ذلك من خسائر جسيمة للإقتصاد المصري.
كما أشرت في المذكرة إلي وجود لوبيات داخل بعض الأجهزة أو ما يسمي في علم الإدارة بالتنظيم غير الرسمي وهو تنظيم موازي للإطار التنظيمي الرسمي بالمؤسسات ويدافع عن مصالح المنتسبين له بعيداً عن أهداف المؤسسة والمصلحة العامة بل علي أنقاضها في كثير من الأحيان، وكذلك أشرت في المذكرة إلي أن تلك اللوبيات تعد بمثابة تنظيمات سرية نشأت بالمخالفة للقانون وتتسبب في تخريب المؤسسات والتأثير بالسلب علي مقدرات المجتمع مما يجعل التكييف القانوني لهذه الجريمة هو أنها جريمة أمن دولة كما وصفتها في المذكرة. كما دعوت في المذكرة إلي قيام الأجهزة الرقابية بدورها في كشف وتفكيك تلك التنظيمات حفاظاً علي سلامة الأداء بالمؤسسات وحرصاً علي مناخ عمل غير طارد للمصلحين والكفاءات والشرفاء وما يستتبعه ذلك من تراجع في أداء المؤسسات العامة، وتدهور كفاءة الدولة في إدارة الشأن العام.