نستطيع أن نجزم الآن وبعد ما يقرب من ثماني سنوات من الحرب الكونية على سورية, بأنها بالفعل آخر الحصون العربية الصامدة في وجه العدو الأمريكي, ومشروعه الاستعماري الجديد في منطقتنا والذي يسمى «مشروع الشرق الأوسط الجديد», وإذا كانت هذه التسمية جديدة نسبياً إلا أن المشروع ذاته قديم ورسمت معالمه منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين, حين رأت الولايات المتحدة الأمريكية أن آلية التقسيم والتفتيت التي اتبعتها القوى الاستعمارية القديمة هي أحد أهم الآليات للسيطرة والهيمنة على ثروات مجتمعاتنا العربية والإسلامية, وتالياً لابد من إجهاض أي مشروع وحدوي في المستقبل, بل القضاء بشكل نهائي على هذه الأفكار التي تنادي بالوحدة وتسعى إليها.
ومن المعروف تاريخياً أن كل محاولات الوحدة التي حاول جمال عبد الناصر تحقيقها منذ قيامه بثورة 23 تموز 1952 قد ترصدتها الولايات المتحدة الأمريكية القوة الاستعمارية الجديدة في العالم والتي بدأت في سيطرتها وهيمنتها على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وقامت بإجهاضها بطرق شتى سواء بالتآمر عليها من الداخل عبر عملائها داخل مجتمعاتنا أو بتشجيع الرجعية العربية بالوقوف ضدها ودعم وتمويل القوى الانفصالية ولعل نموذج الوحدة المصرية – السورية (1958 – 1961) خير شاهد وخير دليل, وبرحيل جمال عبد الناصر فقد المشروع الوحدوي العربي أحد أركانه الرئيسة, وتمكن مشروع التقسيم والتفتيت من كسب نفوذ وأرضية جديدة داخل مجتمعاتنا العربية عبر استقطاب رئيس أكبر دولة عربية وهي مصر ليعمل لمصلحة المشروع التقسيمي والتفتيتي الأمريكي, وهو الرئيس السادات الذي أعلن أن« 99 % من أوراق اللعبة في يد الأمريكان», وتبنى سياسة الانفتاح وتخلى عن المشروع التنموي المستقل, ووقع اتفاقية كامب ديفيد مع العدو الصهيوني منفرداً, وبذلك تخلى وبشكل نهائي عن مشروع وفكرة الوحدة العربية, وكسب بذلك العدو الأمريكي أرضاً جديدة وبدأ في التفكير بشكل أكثر عملية في مشروع التقسيم والتفتيت.
وبعد إخراج مصر من المعادلة جاء الدور على العراق فأشعل العدو الأمريكي الحرب بينها وبين إيران, وفي عام 1980 وأثناء اشتعال الحرب صرّح مستشار الأمن القومي الأمريكي «بريجنسكي «أحد أهم مهندسي مشروع التقسيم والتفتيت» بأن المعضلة التي ستعانيها الولايات المتحدة من الآن، هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية – تقوم على هامش الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران – تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود سايكس- بيكو, ورغم وضوح هذا التصريح إلا أن معظم حكامنا لا يسمعون ولا يقرؤون ولا يفكرون ولا يتعلمون, ولا يستعينون بمن يسمع ويقرأ ويفكر ويتعلم حتى يتمكن من تقديم النصح لهم, وبذلك يتمكنون من التصرف أمام هذه المؤامرات المعلنة, فكانت حرب الخليج الثانية التي خطط لها العدو الأمريكي منذ سنوات خطوة جديدة في مشروع التقسيم والتفتيت, حيث وقع صدام حسين في الفخ للمرة الثانية وبسذاجة مكنت العدو الأمريكي من فرض نفوذه وهيمنته العسكرية على المنطقة وبرضاء تام من الدول التي طالبت بالحماية الأمريكية خوفاً من بطش ورعونة بعض الحكام العرب.
ولأن العدو الأمريكي لا يلعب ففي أعقاب تصريح «بريجنسكي» قامت وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون بـ«تكليف المفكر والمؤرخ الصهيوني المتأمرك» «برنارد لويس» المتخصص في شؤون الشرق الأوسط بوضع مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية, وتحويل كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية, وقد أرفق بمشروعه المفصل مجموعة من الخرائط المرسومة تحت إشرافه تشمل جميع الدول العربية والإسلامية المرشحة للتفتيت بوحي من مضمون تصريح «بريجنسكي»، وفي عام 1983 وافق الكونغرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع «برنارد لويس»، وبذلك تم تقنين هذا المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الاستراتيجية سنوات مقبلة, ومنذ ذلك التاريخ والعدو الأمريكي ينفذ مشروعه عبر السيطرة والهيمنة على معظم حكامنا لكونهم الأدوات التنفيذية للمشروع في الداخل.
ونجحت مخططات العدو الأمريكي إلى حد كبير باستثناء سورية العربية التي قررت أن تكون صمام الأمان والحاضنة الفعلية للمشروع القومي العروبي المقاوم للهيمنة الأمريكية, فرفض القائد المؤسس حافظ الأسد أي مشروعات تنموية تعتمد على السياسات الرأسمالية الغربية والتي تعتمد بشكل رئيس على المنح والقروض, وقرر اتباع سياسة اقتصادية معتمدة على الذات تحول فيها المواطن العربي السوري إلى مواطن منتج وليس مستهلكاً وأصبحت سورية خلال سنوات حكمه دولة تأكل مما تزرع، وتلبس مما تصنع، ولديها قدر كبير من الاكتفاء الذاتي, ومكّنها ذلك من استقلالية قرارها السياسي, لذلك فشل العدو الأمريكي في أن يفرض أجندته على سورية, ورفض القائد المؤسس حافظ الأسد توقيع اتفاقية سلام مذل مع العدو الصهيوني على غرار «كامب ديفيد» و «أوسلو» و «وادي عربة», وحافظ لسورية على حقها في المقاومة حتى آخر يوم في حياته.
وبرحيل القائد المؤسس حافظ الأسد اعتقد العدو الأمريكي أنه قد تخلص من العقبة الوحيدة في طريق مشروعه التقسيمي والتفتيتي, لكن خاب ظنهم حيث جاء الرئيس بشار الأسد من قلب مدرسة أبيه, تلك المدرسة المؤمنة بحتمية الوحدة العربية, وبحتمية المقاومة فى وجه العدو الأمريكي وحليفه الصهيوني, فحافظ لسورية على سياساتها الاقتصادية المكتفية ذاتياً, وحافظ على استقلالية قرارها السياسي, وعندما اندلعت شرارة «الربيع العربي» المزعوم في مطلع العام 2011 وتساقطت أنظمة عربية وحكامها التابعون للعدو الأمريكي صمدت سورية وحدها باعتبارها آخر حصون المقاومة, وعبر الثماني سنوات تمكنت بفضل شعبها وجيشها وقائدها من تفكيك المؤامرة وهزيمة المشروع التقسيمي والتفتيتي الأمريكي, وعبر هذا الصمود الأسطوري قدمت سورية نموذجاً يمكن البناء عليه وتدعيمه لمن يرغب في اللحاق بركب المشروع الوحدوي العربي المعادل الموضوعي للمشروع التقسيمي والتفتيتي الأمريكي, اللهم بلغت.. اللهم فاشهد.