تمر علينا هذه الأيام ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر, القائد الاستثنائي في تاريخ وحياة المصريين والأمة العربية, وفي هذه المناسبة تجد نفسك في حيرة عن ماذا تكتب؟ فقد كتبنا مراراً وتكراراً وكتب كثيرون غيرنا عن سيرة الزعيم ومشواره منذ الطفولة وحتى رحيله في 28 أيلول 1970, ومُلئ الكثير من الصفحات والمجلدات بالحديث عن تجربته الرائدة ومشروعه الوطني والقومي. وعلى مدار ما يقرب من نصف قرن، منذ رحيله، وهو حاضر في تاريخ بلده وأمته والعالم, وتدور حوله السجالات سواء بين محبيه أو أعدائه، من شهد وعاش تجربته، أو من لم يشهدها ويعايشها, وفي المحن والأزمات يتم استحضار سيرته, وفي الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالحرية والعدل والمساواة حول العالم تُرفع صوره كأيقونة للثائر الحق, وفي المواقف البطلة والشجاعة المتصدية لأعداء الأمة تُستحضر كلماته, وتهتف الجماهير باسمه في كل مناسبة وطنية وقومية.
كانت مواقف عبد الناصر حاسمة قاطعة لا تقبل التأويل أو التشكيك, ولم يكن يقبل الإهانة لنفسه أو شعبه أو وطنه أو أمته أمام الأعداء، مهما كانت قوتهم وسطوتهم ونفوذهم, وكان يتخذ المواقف البطلة والشجاعة المحافظة على كرامة أمته مهما كلفه ذلك من خسائر، لذلك لا عجب في أن يكون الآن حاضراً في كل المواقف التي تمثل تحدياً للأمة وقادتها أمام الأعداء كقدوة وأنموذج, فتجد رجل الشارع العربي يقول لو كان جمال موجوداً في هذا الموقف لكان رده سيكون أكثر قوة وحسماً, وما كانت القوى الاستعمارية المهيمنة قد استطاعت أن تتلاعب بمصير شعوبنا وأمتنا العربية, فقد كانت مواقفه حاسمة من الاستعمار الغربي, وكانوا يعملون له ألف حساب, وكانت الرجعية العربية تاريخياً تفكر ألف مرة قبل اتخاذ أي موقف في ظل وجوده.
لقد تمكّن جمال عبد الناصر من تأسيس مدرسة الكرامة العربية التي وقفت في وجه أعداء الأمة مُعلنة التحدي ورافعة راية المقاومة, والتصدي بشجاعة لكل من يحاول النيل من شرف وكرامة أمتنا العربية, فكانت كلماته المدوية في مواجهة العدو الصهيوني «لا صلح لا تفاوض لا اعتراف» و«ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» بمنزلة إعلان لميلاد المقاومة, وشق نهر هادر من الشرف والكرامة العربية في مواجهة القوى الاستعمارية الغربية الداعمة للعدو الصهيوني.
اليوم في ذكرى ميلاده الأول بعد المئة نركز على كيف ولدت زعامة عبد الناصر, وبالطبع الزعامات لا تولد إلا من خلال المواقف والأحداث التاريخية الكبرى, وقدرة القائد على التصدي والمواجهة والانتصار, ويعد العدوان الثلاثي على مصر 1956 بمنزلة المعركة الحقيقية التي خلع فيها عبد الناصر رداء الرئاسة ليرتدي رداء الزعامة من دون منافسة أو نزاع داخل الأمة العربية, فعندما قرر استرداد جزء عزيز وغالٍ من أرض مصر حُفر بدماء شعبها وهو قناة السويس وتخليصها من أيدي القوى الاستعمارية الغاصبة الإنكليزية والفرنسية, كان قراره بمنزلة تحد كبير لهذه القوى الإمبريالية العالمية, لذلك تحركت آلتها العسكرية، براً وبحراً وجواً في محاولة للحفاظ على «هيبتها الدولية» أمام ذلك القائد العربي الشاب, لكن هذا القائد الأسمر الذي جاء من صعيد مصر كان عنيداً وشرساً, فوقف معلناً التحدي والتصدي وتمكن من الصمود حتى إجبارها على الانسحاب وإعلان هزيمتها, وخرج جمال عبد الناصر من هذه المعركة ليس رئيساً لمصر فقط لكن زعيماً عربياً تتجه أنظار العالم إليه، وتحسب القوى الإمبريالية العالمية له ألف حساب.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فمع مطلع هذا العام وفي التوقيت نفسه – ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر- يُعلن عن ميلاد زعيم جديد للأمة العربية, كان رئيساً حتى مطلع عام 2011 عندما قررت القوى الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة شن حرب كونية على بلاده انتقاماً منها لعدم الخضوع للهيمنة الأمريكية, ولدعم المقاومة العربية في مواجهة العدو الصهيوني, وبناء تجربة تنموية مستقلة تشبه تجربة جمال عبد الناصر, تجربة تعتمد على الذات فالشعب يأكل مما يزرع ويلبس مما يصنع, وهو ما يعني خروجاً عن التبعية للإمبريالية العالمية واستقلالية للقرار السياسي .
وكانت معركة 2011 هي الأشرس في تاريخ منطقتنا على الإطلاق, وبرغم ذلك قرر الرئيس بشار الأسد أن يخوضها دفاعاً عن شرف وكرامة الأمة العربية كلها, وقد كان ذلك وتمكن عبر ثماني سنوات من أن يصمد صموداً أسطورياً، ويعقد تحالفات سياسية أذهلت العالم، وأعادت القطبية المتعددة من جديد, وتمكن جيش بلاده من دحر الجحافل الإرهابية وتجفيف منابع الإرهاب على كامل الجغرافيا العربية السورية تقريباً, وقبل أن يحل مطلع العام الجديد كانت الولايات المتحدة تعلن هزيمتها بانسحاب قواتها المعتدية, ومع إعلان الانتصار السوري يخرج الرئيس بشار الأسد من هذه الحرب الكونية ليس رئيساً فحسب بل زعيماً يستحق أن يرتدي رداء الزعامة العربية عن كل جدارة واستحقاق.
وبالطبع، أصبحت أنظار العالم تتجه صوب سورية العربية والزعيم بشار الأسد، وأصبحت القوى الإمبريالية العالمية تحسب له ألف حساب, لكن الغريب والعجيب حقاً, أن الرجعية العربية تستكثر على الرجل زعامته، كما كانت تستكثرها على الزعيم جمال عبد الناصر, وبدلاً من أن يعلنوا انضمامهم وجامعتهم مسلوبة الإرادة إلى محور المقاومة والشرف العربي, يحاولون مساومة سورية وزعيمها من أجل العودة لمقعدها السليب داخل الجامعة, لكن هيهات أن ينالوا من سورية وزعيمها، فالصمود والانتصار الذي حققه ناصر في 1956 خلق زعامته التاريخية, والصمود والانتصار الذي حققه الرئيس بشار الأسد لغاية 2019 حقق زعامته التاريخية الجديدة.. اللهمّ بلغت اللهمّ فاشهد.