لا يوجد مجتمع بشرى خالٍ من الفساد، والوطن العربي آفته الأساسية الآن هو الفساد، وإذا ما أخذنا مصر مثالا فسوف نجدها مثل كل المجتمعات شهدت خلال تاريخها الممتد عبر آلاف السنين أشكالا متعددة من الفساد، لكن ما تبلور في مصر من فساد منذ مطلع السبعينيات لا يمكن أن يضاهيه كل ما مر بمصر والعالم من أشكال الفساد..
فمنذ أعلن الرئيس "السادات" عن تخلي مصر عن مشروعها الوطنى والقومى والتنموى لصالح مشروع التبعية والانفتاح والتخلف، والفساد ينمو بشكل سرطانى في جسد الوطن، فلا يمكن أن أنسي مقولات البسطاء من أهالينا في المناطق والأحياء الشعبية الفقيرة حين يتحدثون عن الرئيس "السادات"- وأيامه وكنا في ذلك الوقت أطفال وصبية صغار لا نعرف شيئ عن مبادئ الاقتصاد والسياسة
"أن من لم يغتنى في عصره لن يرى غنى أو نعمة من بعده".
وعندما كبرت وبدأ وعيي يتشكل، أدركت أنهم يتحدثون عن الانفتاح الاقتصادى والسمسرة والمضاربة والسرقة والنهب والاتجار في كل شيئ دون وازع من أخلاق أو ضمير، فسمعنا عن ظواهر اجتماعية تنم عن انهيار تام في منظومة القيم داخل المجتمع، وترسخت بذهنى مقولة الكاتب الصحفى الكبير "أحمد بهاء الدين" للرئيس "السادات" نفسه: "أن هذا الانفتاح يشكل وبالا على الشعب المصرى لأنه انفتاح سداح مداح"، والذي بفضله ظهرت أنواع وأشكال متعددة من الفساد.
ويأتى الفساد الكبير في المقدمة، ذلك الفساد الذي تجسد في البداية فيما أطلق عليه "القطط السمان" وهم مجموعة من الفاسدين الكبار الذين يرتبطون بعلاقات وطيدة مع السلطة السياسية، وصلت إلى علاقات مصاهرة مع رأس الدولة ذاته، وتاجر وسمسر هؤلاء في كل شيء حتى كونوا ثروات ضخمة، وبدأنا نسمع عن أصحاب "الأرانب" والمقصود بها المليون جنيه، فتشكلت مجموعة من المليونيرات من أصول اجتماعية واقتصادية لم تكن تسمح لهم بتشكيل تلك الثروات غير المبررة.
لكن تحالفاتهم مع السلطة السياسية هي التي منحتهم فرصة تكوين هذه الثروات بطرق مشروعة أحيانا وغير مشروعة غالبا، وهذا النوع من الفساد الكبير ظل موجودا بل دخلت عليه تطورات كبيرة خلال حكم الرئيس "مبارك" وهو ما تبلور مؤخرا في شكل مجموعة من رجال الأعمال الذين يسيطرون على الاقتصاد الوطنى غير المنتج، عن طريق علاقات وثيقة الصلة بالسلطة السياسية، وتحولت في أواخر عصر "مبارك" إلى بروز ظاهرة تزاوج رأس المال والسلطة، فأصبحوا شركاء ل"مبارك" في حكم مصر.
أما النوع الثانى فهو الفساد المتوسط، والذي بدأ ينمو وينتشر داخل الجهاز البيروقراطى للدولة، حيث وكلاء الوزارات وكبار المديرين ونوابهم ورؤساء الأقسام داخل شركات ومصانع ومؤسسات الدولة المختلفة، والذين تعاملوا مع المال العام على أنه مال خاص فأخذوا منه ما لا يستحقون، وبدأت عمليات الرشوة والمحسوبية والوساطة تنتشر بشكل وبائي داخل الجهاز الإدارى للدولة..
مما أدى إلى انهيار المؤسسات العامة وتراجع العملية الإنتاجية، وبدلا من تحقيق مكاسب داخل هذه الشركات والمصانع والمؤسسات بدأت تحقق خسائر ضخمة كمقدمة لاتخاذ قرارات بضرورة التخلص من ممتلكات الشعب، بدلا من التخلص من هؤلاء الفاسدين الذين يديرونها ومتخذي القرار هم الفاسدون الكبار الذين سيشترون وسيسمسرون من وراء عمليات البيع.
وفى ظل هذه الأجواء انتشر الفقر بشكل غير مسبوق لدى الغالبية العظمى من المصريين، وتحت وطأة الحاجة والفقر بدأ الفساد الصغير ينتشر بين جموع المصريين وفى كل ربوع الوطن، فلا مصلحة تقضى إلا بالدفع من العملات المالية فئات العشرة ثم العشرين ثم الخمسين ثم المائة ثم المائتين، وتطورت المسألة بشكل كبير فالموظف الشريف أصبح متسول والأكثر جرأة أصبح مبتز مقابل تقديم الخدمة، والأكثر بيعا لضميره أصبح مرتشي والجميع يبرر تسوله وابتزازه ورشوته بعدم كفاية راتبه لسد رمقه وأسرته..
وانتقلت العدوى لكل قطاعات المجتمع الكل يمارس الفساد بأشكاله المختلفة، ومن يرفض التسول والابتزاز والرشوة والوساطة والمحسوبية سيجبر يوما على ممارساتها، لأنها تحولت لأسلوب حياة وثقافة مجتمع انهارت منظومته الأخلاقية.
لذلك لا عجب أن تتجسد مقولة المخرج المبدع الراحل "عاطف الطيب" في فيلمه "ضد الحكومة" وعلى لسان بطله العبقرى الراحل "أحمد زكى"، حين وقف أمام المحكمة وقال قولته الشهيرة "كلنا فاسدون حتى بالصمت العاجز المتخاذل قليل الحيلة".
وإذا كانت هذه هي حالة مصر منذ سيطرة المشروع الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وتحاول تعميمه على وطننا العربي منذ ما يزيد على نصف قرن، فإن هذا النموذج قد تم تعميمه على غالبية المجتمعات العربية، حيث أصبح تزاوج رأس المال والسلطة متلازمان، وهو ما ادى إلى أزمات اقتصادية طاحنة عجزت عن حلها هذه الحكومات الفاسدة، وأصبحت الأزمات الاقتصادية هي أحد الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية لفرض سيطرتها وهيمنتها على مجتمعاتنا العربية، وهنا يأتي السؤال الفساد في الوطن العربي إلى أين؟!
والإجابة تؤكد أننا وبعد كل الهبات والانتفاضات الجماهيرية خلال العقد الأخير لم نحقق شيئ لأن معركتنا الحقيقية مع الفساد لم تبدأ بعد، وإذا أردنا إصلاح حقيقي في وطننا العربي فعلينا أن نتحرك فورا لمواجهة الفساد الكبير المتمثل في مجموعة السياسيين ورجال الأعمال الذين كونوا ثرواتهم بتحالفاتهم مع النظام الرأسمالي العالمي، والذين يسيطرون على مقدرات الاقتصاديات الوطنية في مجتمعاتنا العربية، وعدد هؤلاء محدود للغاية، وعند بداية المعركة سيدخل الفساد المتوسط للجحور، وعندما تبدأ عمليات التنمية الحقيقية وتوزع عائداتها على الفقراء والكادحين سيختفى الفساد الصغير، وسوف تتشكل منظومة قيم جديدة معادية للفساد والفاسدين، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد