اخبار ذات صلة

الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019

الفساد في الوطن العربي .. إلى أين ؟!


لا يوجد مجتمع بشرى خالٍ من الفساد، والوطن العربي آفته الأساسية الآن هو الفساد، وإذا ما أخذنا مصر مثالا فسوف نجدها مثل كل المجتمعات شهدت خلال تاريخها الممتد عبر آلاف السنين أشكالا متعددة من الفساد، لكن ما تبلور في مصر من فساد منذ مطلع السبعينيات لا يمكن أن يضاهيه كل ما مر بمصر والعالم من أشكال الفساد..

فمنذ أعلن الرئيس "السادات" عن تخلي مصر عن مشروعها الوطنى والقومى والتنموى لصالح مشروع التبعية والانفتاح والتخلف، والفساد ينمو بشكل سرطانى في جسد الوطن، فلا يمكن أن أنسي مقولات البسطاء من أهالينا في المناطق والأحياء الشعبية الفقيرة حين يتحدثون عن الرئيس "السادات"- وأيامه وكنا في ذلك الوقت أطفال وصبية صغار لا نعرف شيئ عن مبادئ الاقتصاد والسياسة
"أن من لم يغتنى في عصره لن يرى غنى أو نعمة من بعده".

وعندما كبرت وبدأ وعيي يتشكل، أدركت أنهم يتحدثون عن الانفتاح الاقتصادى والسمسرة والمضاربة والسرقة والنهب والاتجار في كل شيئ دون وازع من أخلاق أو ضمير، فسمعنا عن ظواهر اجتماعية تنم عن انهيار تام في منظومة القيم داخل المجتمع، وترسخت بذهنى مقولة الكاتب الصحفى الكبير "أحمد بهاء الدين" للرئيس "السادات" نفسه: "أن هذا الانفتاح يشكل وبالا على الشعب المصرى لأنه انفتاح سداح مداح"، والذي بفضله ظهرت أنواع وأشكال متعددة من الفساد.

ويأتى الفساد الكبير في المقدمة، ذلك الفساد الذي تجسد في البداية فيما أطلق عليه "القطط السمان" وهم مجموعة من الفاسدين الكبار الذين يرتبطون بعلاقات وطيدة مع السلطة السياسية، وصلت إلى علاقات مصاهرة مع رأس الدولة ذاته، وتاجر وسمسر هؤلاء في كل شيء حتى كونوا ثروات ضخمة، وبدأنا نسمع عن أصحاب "الأرانب" والمقصود بها المليون جنيه، فتشكلت مجموعة من المليونيرات من أصول اجتماعية واقتصادية لم تكن تسمح لهم بتشكيل تلك الثروات غير المبررة.

لكن تحالفاتهم مع السلطة السياسية هي التي منحتهم فرصة تكوين هذه الثروات بطرق مشروعة أحيانا وغير مشروعة غالبا، وهذا النوع من الفساد الكبير ظل موجودا بل دخلت عليه تطورات كبيرة خلال حكم الرئيس "مبارك" وهو ما تبلور مؤخرا في شكل مجموعة من رجال الأعمال الذين يسيطرون على الاقتصاد الوطنى غير المنتج، عن طريق علاقات وثيقة الصلة بالسلطة السياسية، وتحولت في أواخر عصر "مبارك" إلى بروز ظاهرة تزاوج رأس المال والسلطة، فأصبحوا شركاء ل"مبارك" في حكم مصر.

أما النوع الثانى فهو الفساد المتوسط، والذي بدأ ينمو وينتشر داخل الجهاز البيروقراطى للدولة، حيث وكلاء الوزارات وكبار المديرين ونوابهم ورؤساء الأقسام داخل شركات ومصانع ومؤسسات الدولة المختلفة، والذين تعاملوا مع المال العام على أنه مال خاص فأخذوا منه ما لا يستحقون، وبدأت عمليات الرشوة والمحسوبية والوساطة تنتشر بشكل وبائي داخل الجهاز الإدارى للدولة..

مما أدى إلى انهيار المؤسسات العامة وتراجع العملية الإنتاجية، وبدلا من تحقيق مكاسب داخل هذه الشركات والمصانع والمؤسسات بدأت تحقق خسائر ضخمة كمقدمة لاتخاذ قرارات بضرورة التخلص من ممتلكات الشعب، بدلا من التخلص من هؤلاء الفاسدين الذين يديرونها ومتخذي القرار هم الفاسدون الكبار الذين سيشترون وسيسمسرون من وراء عمليات البيع.

وفى ظل هذه الأجواء انتشر الفقر بشكل غير مسبوق لدى الغالبية العظمى من المصريين، وتحت وطأة الحاجة والفقر بدأ الفساد الصغير ينتشر بين جموع المصريين وفى كل ربوع الوطن، فلا مصلحة تقضى إلا بالدفع من العملات المالية فئات العشرة ثم العشرين ثم الخمسين ثم المائة ثم المائتين، وتطورت المسألة بشكل كبير فالموظف الشريف أصبح متسول والأكثر جرأة أصبح مبتز مقابل تقديم الخدمة، والأكثر بيعا لضميره أصبح مرتشي والجميع يبرر تسوله وابتزازه ورشوته بعدم كفاية راتبه لسد رمقه وأسرته..

وانتقلت العدوى لكل قطاعات المجتمع الكل يمارس الفساد بأشكاله المختلفة، ومن يرفض التسول والابتزاز والرشوة والوساطة والمحسوبية سيجبر يوما على ممارساتها، لأنها تحولت لأسلوب حياة وثقافة مجتمع انهارت منظومته الأخلاقية.

لذلك لا عجب أن تتجسد مقولة المخرج المبدع الراحل "عاطف الطيب" في فيلمه "ضد الحكومة" وعلى لسان بطله العبقرى الراحل "أحمد زكى"، حين وقف أمام المحكمة وقال قولته الشهيرة "كلنا فاسدون حتى بالصمت العاجز المتخاذل قليل الحيلة".

وإذا كانت هذه هي حالة مصر منذ سيطرة المشروع الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وتحاول تعميمه على وطننا العربي منذ ما يزيد على نصف قرن، فإن هذا النموذج قد تم تعميمه على غالبية المجتمعات العربية، حيث أصبح تزاوج رأس المال والسلطة متلازمان، وهو ما ادى إلى أزمات اقتصادية طاحنة عجزت عن حلها هذه الحكومات الفاسدة، وأصبحت الأزمات الاقتصادية هي أحد الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية لفرض سيطرتها وهيمنتها على مجتمعاتنا العربية، وهنا يأتي السؤال الفساد في الوطن العربي إلى أين؟!

والإجابة تؤكد أننا وبعد كل الهبات والانتفاضات الجماهيرية خلال العقد الأخير لم نحقق شيئ لأن معركتنا الحقيقية مع الفساد لم تبدأ بعد، وإذا أردنا إصلاح حقيقي في وطننا العربي فعلينا أن نتحرك فورا لمواجهة الفساد الكبير المتمثل في مجموعة السياسيين ورجال الأعمال الذين كونوا ثرواتهم بتحالفاتهم مع النظام الرأسمالي العالمي، والذين يسيطرون على مقدرات الاقتصاديات الوطنية في مجتمعاتنا العربية، وعدد هؤلاء محدود للغاية، وعند بداية المعركة سيدخل الفساد المتوسط للجحور، وعندما تبدأ عمليات التنمية الحقيقية وتوزع عائداتها على الفقراء والكادحين سيختفى الفساد الصغير، وسوف تتشكل منظومة قيم جديدة معادية للفساد والفاسدين، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

بقلم / د. محمد سيد أحمد

مجتمعاتنا العربية.. تخنق العلم والإبداع !!



تحدثنا الأسبوع الماضي عن الفساد في الوطن العربي واتخذنا من مصر نموذجا، وأوضحنا كيف ارتبط الفساد بالسلطة السياسية لدرجة أصبحت فيها الدولة راعية للفساد، ونواصل الحديث هذا الأسبوع عن كيف أصبحت مجتمعاتنا العربية التي تعتمد على الفساد والفهلوة تخنق العلم والإبداع، وسوف نعتمد مصر نموذجا يمكن التعميم من خلاله على غالبية مجتمعاتنا العربية، فما شهدته الدولة المصرية منذ مطلع السبعينيات أسس لما يمكن أن نطلق عليه بقلب وضمير مستريح دولة الفساد والفهلوة.

التي وضع بذورها الجنينية الرئيس "السادات" عندما أعلن تخليه عن المشروع الوطنى والقومى الذي أسست له ثورة 23 يوليو 1952، حين وضعت الدولة الجديدة المتحررة لتوها من براثن الاستعمار منظومة قيم جديدة تعلي من قيمة العلم، وتدعم وتشجع الموهبة، وترفع وتقدر الإبداع، ويحصل الإنسان على الفرص المتاحة في كافة مجالات الحياة وفقا لقدراته وإمكاناته وعلمه وموهبته وإبداعه، دون أن يضطر للجوء إلى طرق ملتوية وغير شرعية، وخلال هذه المرحلة تمكن أبناء الفقراء والكادحين من الصعود الاجتماعي عبر الآليات الشرعية التي وضعتها الجمهورية الوليدة، ووفقا لمنظومة القيم التي تعلي من شأن العلم والموهبة والإبداع.

وبرحيل قائد الثورة "جمال عبد الناصر" قرر "أنور السادات" الانقلاب على المنظومة التي بني عليها المشروع الوطنى والقومى المستقل، لصالح مشروع التبعية للنظام الرأسمالي العالمي، والذي يتطلب منظومة قيم جديدة تساعد على تكريس التخلف لاستمرار التبعية، وعدم القدرة على الفكاك منها، ومن هنا بدأت منظومة القيم القديمة في التحلل والانهيار لصالح منظومة قيم جديدة..

فالدولة التي بدأ تأسيسها في مطلع السبعينيات تعلي من قيم النفاق والفهلوة والمحسوبية والوساطة والرشوة والولاء للسلطة وتمجيد الحاكم، وذلك من أجل الحصول على الفرص المتاحة في كافة مجالات الحياة، ومن هنا وجد من استطاع استيعاب هذه القيم الجديدة الطريق ممهد للصعود والترقي داخل كل مؤسسات الدولة، وهو ما جعل أصحاب العلم يختنقون، وأصحاب الموهبة يحتضرون، والمبدعون يموتون كمدا.

وفي ظل ما يطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي "إميل دور كايم" حالة الأنومي الاجتماعية أو فقدان المعايير نتيجة انهيار منظومة القيم القديمة وإعادة بناء منظومة القيم الجديدة وهى الحالة التي تصيب المجتمعات في المراحل الانتقالية، فإن المجتمع المصرى قد شهد هذه المرحلة منذ مطلع السبعينيات حتى تمكن من بناء منظومة القيم الجديدة..

وللأسف الشديد جاءت منظومة القيم الجديدة مختلة إلى حد كبير، وقائمة على الفساد والفهلوة، وفي إطار القيم الجديدة شعر كثير من المواطنين الذين مازالوا متمسكين بالقيم القديمة القائمة على العلم والموهبة والإبداع بما يطلق عليه "كارل ماركس" حالة الاغتراب حتى وهو يعيش داخل مجتمعه، وما يزيد الطين بله أنه يقع في صراع شديد بين منظومة القيم التي يؤمن بها ومنظومة القيم التي يعتمدها المجتمع، ويعتبرها الآلية الصالحة للتعايش والحصول على الفرص المتاحة في كافة مناحى الحياة.

وفي ظل منظومة القيم الجديدة التي اعتمدتها دولة التبعية أصبح نموذج الفساد والفهلوة هو النموذج الأكثر شيوعا وانتشارا داخل المجتمع، فلا يستطيع مواطن أن يصعد ويرتقى السلم الاجتماعي والحصول على الفرص المتاحة في كافة مناحى الحياة وداخل مؤسسات دولة الفساد والفهلوة إلا من خلال المحسوبية والوساطة والرشوة والنفاق والعمالة وكتابة التقارير للأجهزة الأمنية تطوعا.

لذلك لا عجب "أن تجد كثيرا من المسؤولين في كافة مؤسسات الدولة يتحدثون -بدون حياء أو خجل- إلى من يمتلكون العلم والموهبة والإبداع ليؤكدوا لهم أنهم لم ولن يحصلوا على ما يستحقونه داخل مجتمعهم لأنهم لا يمتلكون هذه القيم المنحطة، وأن صعودهم الاجتماعي وترقيهم الوظيفي لا يعتمد على العلم أو الموهبة أو الإبداع بل يعتمد على قدراتهم على النفاق وتقديم الرشوة وكتابة التقارير الأمنية في زملائهم".

ولا عجب أن يعاقب أصحاب المبادئ والقيم النبيلة عبر دولة الفساد والفهلوة التي تخنق العلم والموهبة والإبداع، لذلك إذا أردنا الإصلاح والتغيير الحقيقي فلابد من التخلص من منظومة قيم الفساد والفهلوة التي ترسخت منذ مطلع السبعينيات، وإعادة بناء منظومة قيم جديدة تعلي من قيمة العلم والموهبة والإبداع في مصر وكل مجتمعاتنا العربية..

وبالطبع لا يمكن أن يحدث ذلك بين يوم وليلة، فالمعركة تتطلب نفس طويل، يمكن أن يبدأ بإعلان التحرر من التبعية وإعادة إحياء المشروع الوطنى والقومى المستقل، ثم الدخول في معركة مواجهة الفساد والفهلوة، وفى النهاية تأتى مرحلة بناء منظومة القيم الجديدة القائمة على العلم والموهبة والإبداع، لتحل محل القيم السائدة التي تعتمد على الرشوة والمحسوبية والوساطة والنفاق وكتابة التقارير الأمنية، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

بقلم / د. محمد سيد أحمد