كيف أفجر في صدور أعدائنا كل حقد، وكيف أنزع من صدورنا أي ضعف، وكيف أملأ صدور أعدائنا تلال رعب... والأفراح المشروعة والأحزان النبيلة وقود الحضارة وماؤها الثقيل، غائبة أو مغيبة.
في مرحلة سابقة جعلها الأعداء وأعوانهم علي الناس ترف ورفاهية. وإمعانا لإيقاعهم في التيه والربكة والحيرة جعلوها في نفوس الناس مقبورة لتورثهم الهم والغم .. في هذه المرحلة حلها كما أخبرنا الرسول صلي الله عليه وسلم: "عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم" .. أما في المرحلة المتقدمة الحالية جعلوها مغيبة في مسارات هروبية...
صدى البطل واختراق القلعة المحصنة
كان هذا الوضع المأساوي الذي صنعته الأيدى السوداء - اليهود والأمريكان - قلعة محصنة .. صندوقا مغلقا رهيبا، يدور حوله الفتي جيئة وذهابا ولكنه لا يملك مفاتيحه ولا يملك أن ينفذ إليه. لهذا ظل العدو يستمد أهميته وقوته طوال الوقت من أراذل الشعوب - قادة الرأي وجماعات الفرقة - بمعني أدق "الأنظمة والمعارضة" غير الواعية بحقيقة الصراع وفلسفة الإصلاح، فهم في حقيقتهم عقبة كؤد لا عتبة وصل ولود، لكن الفتي أبصر من فوق الطوفان المدمر. الله أكبر من كيد الشياطين السر العظيم في فهم الجماهير العميق حيث الحاكم الضال والمضل لشعبة لا يريد هذه المسألة علي الإطلاق. وأراذل الشعوب للأسف غير قادرين علي حمل الرسالة لأنهم حوائط حجرية وأصنام في منطقة وسطى تعمل علي سند الأنظمة الفاسدة وكلا الفريقين يهرب حسب تداعيات الموقف وظروف المرحلة طبقا لخريطة المكاسب المتحققة، وهم جميعا يتقاسمون عرق الناس ودمائهم بقلوبهم الباردة القاسية...
عاصمة القلب: من هم الذين يهربون؟..
صدي البطل،، أيمن: كنت خائف أن تكوني تهتي في الحسبة .. الٱن إطمئن قلبي .. سيدتي ليس أراذل الشعوب أدعياء الإصلاح هم الذين يهربون .. لا أبدا .. هم من يصنعون مسارات هروبية موازية .. تقدري تقولي بأنه عالم موازي لجعل الإنسان الفرد يلوذ إليها وهو مخرب نفسيا من خلال الفكر والإبداع والفن والدين الصناعي والعهر السياسي لخلق ذلك العالم الموازي للعامل الجغرافي. ليحقق به حالة من حالات التصالح المكذوبة مع الذات. وعمل سقف أو منطقة بينية. كحائط كبير عالي .. فيه كل الحماية للأنظمة الفاسدة - حيث يكون هذا الحائط حاجزا لغضبة الجماهير تجاه الأنظمة - هذا العالم الذي صنعه وبالأخص أراذل الشعوب هو الذي يفرض علي الجماهير أن يتعاملوا مع كل المسائل المصيرية للأمة علي أنها نكتة بايخية ويضحكوا عليها مجاملة. سواء كان غصب عنهم أو برضاهم. المهم أن تظل الجماهير نائمة علي بطنونها .. ورأسها في التراب، ولكي تستمر هذه المأساة، يسمحوا للناس من وقت لٱخر برفع الرأس والحصول علي نفس مخدر يأخذه هذا الإنسان من المسار الذي صنع له ويناسبه وفي المثل قالوا: " البق أهبل ".
المسار الأول: الخياليين والخائبين الجبناء
وعلي النقيض من الكلام السابق أنه من المكن، بل إنه لأمر واقع نحياه بملايين الصور في علامنا الإسلامى المعاصر أن نجد متفلسفا أخلاقي من الخياليين أو الخائبين، ويري أن ما يقوم به هو وأمثاله من بكاء ونحيب ودعاء في غير محله سيخيف الظالمين. وترتعد روحه الجبانة من أي تصور ٱخر من أجل دفع شرورهم. إن مثل هذا المتفلسف لا يمكن أن يصلح العالم، بل يمكنه - في الحقيقة - أن يذهب إلي الغابات والجبال والإعتكاف في الزوايا هو وأتباعه ليحقق حاله من الهروب. وأول فوج ظهر من هؤلاء الواهمين كان في عصر صدر الإسلام، والصحابة، رضي الله عنهم لا زالوا أحياء، فتصدي لهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعرف ما في العزلة من مضارة للإسلام المتحرك، إسلام الأمر والنهي والجهاد والوحدة والدعوة الذي رباه عليه النبي صلي الله عليه وسلم، فأوضح لهم بدعتهم، ونهرهم واجتث أوهامهم عن عروقها، وعاد بهم إلي الصواب..
روي لنا التابعي الكوفي، الفقيه النبيل عامر الشعبي، إن رجالا خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم:
ما حملكم علي ما صنعتم؟
قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد.
فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل؟ وما أنا ببارح حتي ترجعوا فلما مات بن مسعود وأصحابه، وذهب جيل المجاهدين من التابعين الذين رباهم الصحابة، عاد البعض إلي التخلي عن الجهاد، وإلي العزلة، مرة ثانية، وفي النصف الثاني من القرن الثاني.
ورث بن المبارك هذه الكلمة التي نقلها في كتابه الزهد/٣٩٠ عن بن مسعود فاتخذ منها نبراسا ويقوم بدور بن مسعود ثانية، حتي نراه ينكر علي رفيقه الزاهد العابد الثقة الفضيل بن عياض رحمه الله إعتزاله ومجاورته في مكة. وتركه الجهاد... وتتلاحق من بعد بن المبارك أجيال وأجيال، وإذا بالهمم تضعف مرة أخري وإذا بالذهاد والعباد يعتزلون في الرباطات، ويتركون إرشاد الناس، ويعافون الدعوة فيشيع الإضطراب في المجتمع المسلم مرة أخري.
فإذا بالقرن السادس الهجري يلد لنا وارثا صادقا من وراث تلك الأقباس الأولي لابن مسعود وابن المبارك ينتفض، ويأبي وعيه الإنسياق في تيار بدعة الترهيب والإختفاء عن الناس، فيقف ينادى الأمة، ويدلها علي الأمراض التي تتهددها.
إنه ااشيخ القدوة العارف "عبد القادرالجيلاني" رحمه الله تكلم الشيخ عبد القادر كثيرا، وصاح بأهل العراق صيحات بليغة ورفيعة المعني والمبني فأسمع من صيحات الحق هذا القول أن:
( المتزهد المبتدئ في زهده يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي منهم، لا يهرب منهم، بل يطلبهم، لأنه يصير عارفا لله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شئ، ولا يخاف من شئ سواه،. المبتدئ يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبهم وكل دوائهم عنده؟ ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليهم: لا يضحك في وجه الفساق إلا العارف ممن كملت معرفته لله عز وجل صار واليا عليه.
يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا.
يعطي القوة حتي يهزم إبليس وجنده.
يأخذ الخلق من أيديهم.
يا من إعتزل بزهده مع جهله: تقدم واسمع ما أقول.
يا زهاد الأرض تقدموا. خربوا صوامعكم واقتروا مني. قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل. ما وقعتم بشئ. تقدموا) وهذا يودعه في كتابا له ( الفتح الرباني والفيض الرحماني ).
وفي ذات الوقت كان داعية ٱخر في بغداد يحمل مثل هذا القلب الكبير أيضا ويصيح بأهل - بغداد - إنه أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي أبا إلا الصراحة فاندفع يفضح ويقول: ( الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهى حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض. إلا أنها حالة الجبناء.
فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعملون. وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام ). وللدكتور حسان حتحوت أبيات واضحة،
حسبوا بأن الدين عزلة راهب واستمرؤا الأوراد والأفكار
عجبا أراهم يؤمنون ببعضه وأرى القلوب ببعضه كفارا
والدين كان ولا يزال فرائضا ونوافلا لله واستغفارا
والدين ميدان وصمصام وفر ساق تبيد الشر والأشرار
والدين حكم باسم ربك قائم بالعدل لا جورا ولا استهتارا
والقعود في البيوت، من بعد الإعتزاا في المساجد، أكثر بعدا عن صفة المسلم الكامل. ولذلك كان للصحابة رضي الله عنهم إنكار شديد علي من يتوارى في بيته، ويأنس بالقرب من زوجه وأولاده، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال الصحابي الجليل المبشر بالجنة " طلحة بن عبد الله القرشي " رضي االه عنه أنه قال:
( إن أقل العيب علي المرء أن يجلس في داره ) طبقات بن سعد ٢٢١/٣ وكذلك أعيان العلماء لا يرون بتاتا. هذا
الغزالي رحمه الله يقول: ( اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم علي المعروف، فأكثر الناس جاهل بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق. وواجب أن يكون في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قرية. وواجب علي كل فقيه - فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلي ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعه.
وهذا بن تيمية يفسر قوله تعالي ( يا أيها المدثر قم فأنذ ) فيقول: " فواجب علي الأمة أن يبلغوا ما انزل إليه، وينذر كما أنذر. قال تعال: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) والجن لم سمعوا القرٱن: ( ولوا إلي قومهم منذرين )
وذكر بن القيم رحمه الله أن ( الشجاع الشديد الذى يهاب العدو سطوته: وقوفه في الصف ساعة، وجهاده أعداء الله، أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع.
والعالم الذي قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من إعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرٱن والتسببح ).
إن مباشرة الدعوة خير من مباشرة النوافل
.. أما أن يختار الخلوة، ويترك محاربة الأفكار الردية والمفاسد الخلقية، فهو كما وصفه "مصطفي صادق الرافعي" في وحي القلم ٩٧/٢ : ( يحسب أنه قد فر من الرذائل إلي فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو نفسه رذيلة لكل فضائله، وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو علي رأس جبل؟!!.. أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟!!.. وأيم الله، إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعا لهو الخالي من الفضائل جميع ).
وأي فرق بين المعتزل في رأس جبل وبين من يعيش مع الناس أخرس صامتا؟!!..
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( الساكت عن الحق شيطان أخرس ) وقالوا: كان الإمام أحمد( إذا بلغه عن شخص صلاح، أو زهد أو قيام بحق، واتباع للأمر: يسأل عنه، وأحب أن يجري بينه وببنه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله ).
فلم بكن بالمعتزل المتواري الهارب من الناس. ومن انتظر مجئ الناس إليه او إلي ببته فإن الأيام تبقيه وحيدا، ويتعلم فن التثاؤب...