(ام الدنيا)
اغدا القاك..
ياخوف فوادي من غدا
يالشوقي والتياعي مع اقتراب الموعد.
على وقع دندنة احد اهرامات مصر الحديثة السيدة ام كلثوم في رائعتها اغدا القاك للشاعر السوداني الشاب الذي توفاه الله قبل ان يلتقي بحبيبته التي ظل يحلم بلقائها والارتباط بها مع تكرار طلبه وتكرار رفض ابويها المصريين. وحين استجابوا.
وحان موعد اللقاء المهيب,اتجه الى خلوته المعتادة حين يناجي حبيبته وحيدا تحت شجرة فاطلق رائعته الشعرية.
وقبل اللقاء وصلت روحه للسماء وجسدة توارى في التراب .
ها انا الان في ارض الكنانة, في قلب المجتمع المصري ابحث عن الحارة نواة المجتمع واي مجتمع ,ابحث عن الحارة المصرية نواة المجتمع المصري.
دقدقة مشاعر فرح مستحي تجعلني انتشي تاره وتاره تختفي حين افضفض عن جو المكان والزمان.
بالحنين الى زمن جميلا مضى. تهيج النفس طربا وتتراقص بخفه حين سماع دندنة الاغنية
فيكشف وجهي عن ابتسامه تم خذلان اكتمالها بسبب زمن الرتابة الحاضر الذي فرض قسرا علينا ان نتلبسه لنعيش بداخله.
تصلب في فمي حديث الذكريات على عمود الحياة الرقمية المشفرة.
ومع ذلك تعيدني الاغنية لتشتعل ذاكرتي لأشعل منها شموعا ترتص بقصص الذكريات ليصبح المكان اكثر انارة .
-كان لي حديث شيق مع احد كبار السن في احدى مقاهي حارة من حارات كفر طهرمس اقدم احياء الجيزة.
سار الحديث في طريق الوضوح والشفافية والصراحة لصفات هذا الشايب وسريرته ونقاء روحه. وهي صفات يتمتع بها اغلب من عاش في زمنه وجيله.
كان حديث ذو شجون فيه حسرة وامل وعتاب وحب الوطن وعشقه لمصر, ثم نبرات حزن وموجات فرح مصاحبة لابتسامات وضحكات ترتفع حدتها او تنخفض بحسب توهج الذاكرة ولهيب مشاعرها.
كان العم احمد عثمان يتحدث وانتباهي متجها اليه ولكل كلمه او فعل منه. ويقطع شريط الذكريات جزٱ من هذا الانتباه لتستعيد بعض المعلومات التي رصدت للتوافق مع حديثه. فتظهر امامي مشاهد من افلام الزمن الجميل وروايات الحارة الشعبية
سالت العم احمد :(ياعم احمد فيه فرق بين ايام زمان والان؟)
كان الشايب العم احمد يتحدث ويسترق نظرات باتجاه وجهي لمحاولة معرفة اثر كلامه على مسامعي :
(اكيد ..ايام زمان احلى ).
وكنت اعلم ذلك واحاول ان اخفي تاثري بكلامه واظهر ابتسامه خفيفه جدا تدل او توحي بان الامر ليس جلل والدنيا بخير.
حقيقة فتجولي ماشيا لساعات في الحارات ,كنت ابحث عن طبيعة وحياة واعراف وروح الحارة المصرية.وحديثي مع العم احمد كان بطريقة غير مباشرة للبحث ذلك.
-بتواجدي في ام الدنيا تتواجد في ذاكرتي صفحات من (افلام الزمن الجميل) مهما طال الزمان وابتعد في كل مره اراها اقرب واقرب واعود بالذاكرة وكأنني اعود لذاك الزمان بكل تفاصيله الرائعة .
في سياق الحديث بيننا كانت بعض لحظات يزورني خيال الفنانين الذين رحلوا عنا وكأنهم يملئوا الاماكن الفارغة في الكراسي والارصفة والبقالات والبلكونات والباصات الجازعة كما في افلام الابيض والاسود القديمة.
لاينقص هذا الخيال الملي بالصور والذكريات الا الموسيقى التصويريه المصاحبة لمقاطع الافلام .فهي ايضا تجعلنا نندمج مع المقاطع ونكون جزء منها.
وفي كل مرة نحن ونشتاق لمشاهدة هذه الافلام ,عكس افلام هذه الايام فلا موسيقاها ولا قصصها استطاعت ان تبعدك عن واقعك بل ان اغلب مقاطعها تذكرك بان ماتشاهده هو مجرد تمثيل.
حقيقة كل شي قديم جميل.
حتى اننا لم نعد نشاهد في افلام هذه الايام ماكنا نراه ولازلنا في الافلام المصرية الكلاسيكيه القديمة التي كانت تبرز روح وطبيعة وحياة الحارة المصرية هذه الروح وهذه الحياة للحارة المصرية القديمة اعتبرها معلم من معالم مصر.
فانا انتمي لاجيال الزمن الجميل فترة الخمسينيات حتى الثمانينيات لدينا قاسما مشتركا ليس فقط بهواياتنا كعشق كرة القدم وموسيقي وغناء وفن الزمن الجميل العدني والعربي والاجنبي .
بل ايضا في بعض تصرفاتنا اللا ارادية وكأننا نهلنا وشربنا من منبع واحد .
-مكارم الاخلاق تجعلنا لاصحابها دوما في اشتياق .انها الاخلاق ياساده وهي تكتسب بالوراثة وايضا بالتربية والبيئة
مصر ارض الكنانة, ام الدنيا كانت ولازالت حاضنة لكل من يهيم عشقا بسحر الوجود او من قذفته اوطانه خارجها بسبب الحروب والدمار باحثا عن امن وامان تجسيدا لقول الله الصادق عز وجل (ادخلوا مصر ان شاء الله امنين) .
ادخلوا مصر ان شاء الله امنين ,فلم تكن للنبي يوسف واهله من تجاره الا في مصر.ولم يكن ليوسف واهله من امن وامان الا في مصر.
هذه الاية تدلل لنا وتعطينا اشارة بان الله يحفظ مصر من الحروب وعدم الامان.
بحكمة قادتها وشعبها تجاوزت مصر الفخ المسمى الربيع العربي والذي فيه ارادوا تغيير ملامح عروبتنا وبلداننا .واوقعوا بعض الدول العربية فيه ولازالت .
ومع ذلك فنهضة مصر وقوته هي نهضة الامة العربية والعكس صحيح.
تشبعت عقولنا ووجداننا بثقافة الحارة الشعبية من خلال كتابات وافلام المبدعين الكبار مثل النوبلي نجيب محفوظ والسيناريست اسامه انور عكاشة وبقية المبدعين.
وقبلها تشبعت اخلاقنا قبل عقولنا بهذه الثقافة في الواقع المعاش اليومي في حاراتنا . فمن الصعب ان نجد شي مغاير او تبديل في هذه الثقافة.
لذلك اعتبر ان حياة وروح وطبيعة الحارة المصرية معلم من معالم مصر العظيمة خاصة والمجتمع العربي عامة .
روح وحياة وثقافة وطبيعة الحارة هي اساس روح وحياة المجتمع العربي. تعلمنا من ثقافة هذه الحارة وروحها ثقافة غزرت في وجداننا وافعالنا ونحن صغار وايضا كبار.
مابين ام الدنيا (مصر) وجنة الدنيا ( عدن) لا تختلف الثقافات وطبيعة وروح واعراف وحياة الحارة الشعبية ,لان الاساس واحد في مجتمع الحارة العربية. واكبر مجتمع عربي تاثرنا بثقافته هو مجتمع الحارة الشعبية المصرية من خلال ثقافة الفن والادب في الكلاسيكسيات والكتب والمجلات.
كبرنا مع المسلسلات المصرية والافلام وقبلها ثقافة الطفل الذي مدتنا بها المكتبة المصرية من خلال مجلات سمير وميكي وقصص الشياطين الثلاثة عشر .
وتعلمنا اضافة لما تعلمناه في مجتمعاتنا كيف يتصرف الفرد في الحارة ومع الجيران وفي البيت والمدرسة والملعب والنادي الرياضي.
وتعلمنا من ثقافة الحارة انه لطول الجيرة ولحسن الاخلاق والسيرة. يصبح الجيران كاسرة واحدة, كالاهل.
منذ ان وطات قدماي ارض الكنانة. عاودتني ذكريات ماقرات. مشاهد ماشاهدت
كان العم احمد يتحدث وانتباهي متجها اليه ولكل كلمه او فعل منه ويقطف جزٱ من هذا الانتباه من ذاكرتي بعض المعلومات التي رصدت للتوافق مع حديثه. فتظهر امامي مشاهد من افلام الزمن الجميل وروايات الحارة الشعبية.
(ياابني كنا ونحن صغار نلعب بالحارة عارفين كل بيت طابخ ايه النهاردة .لان امهاتنا بيوزعوا الطبيخ فيما بينهم )
زرت القاهره على مرتين. في 99م ويونيو 22 م وهذه الايام .
تجولت في القاهره والجيزة ,ذهبت للبحث عن الحارة المصرية .
يقول العم احمد بما معناه :ان الحياة في الحارة صارت اشبه بالحياة الالية,ناس يركضون واذا وقفوا قليلا للكلام فهم يتهامسون لثواني معدودة وعادوا للركض.
وناس مثل الالات التي تبحث عن لقمة العيش بنفس الموال، الرتيب ونفس الطريقه كل يوم. ضاعت البسمه وصباح الخير وازاي الاحوال وسلام عليكم.
ضاعت حياة وروح الحارة المصرية في المصاعد المشفرة وفي الابواب الحديدية والشبابيك المغلقة والبكونات الاسمنتية.
يقول العم احمد: (محدش بيسال على حد..محدش بيعرف حد في الابراج السكنية محدش عايز يخدم حد جدعنه)
وايضا وبما معناه وبحسرة : كانت الحارة ومايجرى فيها ليس خارج انتباه اهلها. بل من صميم اهتمامهم, كل شخص في الحارة يعرف تفاصيل كل بيت في حارته لما يولد المولود حتى يكبر يعرفه كل اهل الحارة وهو يعرفهم .
الحاصل الان انه ليس هناك اهتمام.بل ان جيل الشباب الذي، يبحث عن الماديات والكسب السريع لم يعد، يهتم بالجار الجديد او بالمولود الجديد لابن جيرانه ولا بخطيب بنت الجيران اللي ساكن في حارة ثانية وكيف سلوكه وهل يصلح لبنت حارته او لا.
يقول العم احمد: (الجيل الجديد، لم يعد، يسير في جنازه العم رمضان الطيب. وماعندوش وقت يزور العم علي المريض في العمارة المقابله لبيته).
-ويعلل ان احد اسباب انقراض ثقافة وطبيعة وروح وحياة الحارة الشعبية هو ازالة العمارة ذات الطوابق القليلة التي لاتتعدى الاربعة او الخمسة طوابق وبدون مصعد وكل ساكنيها يعرفوا ويلتقوا ببعض بشكل يومي.
وبناء مكانها الابراج السكنية ذات الطوابق الكثيرة والمصاعد المشفرة والتي لايعرف الجار جاره ولا احد يعرف احد غير بواب العمارة.
اختفت روح الحارة الشعبية بجلسات وافراح واحزان اهلها والبحث عنهم .وحلت بديلا عنها حركة المصاعد المشفره والواتس اب والنت والشبابيك المغلقه والابواب الحديديه .واصبحت زيارات الاطمئنان ومعرفة الاخبار هي رسائل واتس اب .
اذا اردت زيارة احد فيجب عليك ان تتصل لكي ينزل ويطلعك بالمصعد المشفر .هذا اذا رد عليك.
-ومع ذلك وبرغم كلام العم احمد المتشائم .لازالت الحارة موجوده بثقافتها وروعتها وطبيعتها رغم غزو العالم المادي لمجتمع الحارة.
لم تتغير روح الحارة. بل تحورت وتطورت.وتاصلت بثقافتها واعرافها وطبيعتها وروحها وسكنت في نفوس وقلوب وعقول ووجدان المصريين .
تغيرت المشاهد والمناظر والاشكال في الحارة ولم تتغير الاخلاق والثقافة والاعراف في نفوس اهلها .
فالطبيب الذي كان يساعد اهل حارته من بيت لبيت وجدناه في شخصية في احد الابراج التي اقيمت وبنفس الطيبه ويقدم خدماته لاهل حارته ومعارفه بكل تواضع.
حقيقة ثقافة الحارة الطيبه موجوده ولم تنقرض. لكنها تحورت وتطورت بحسب تسارع تطور المجتمعات.
لمستها في بائع النظارات والذي حين نسيت نقوذ النظارة في البيت .وقلت له ساعود لاحضرها اقسم يمين ان اخذ النظارة واي وقت وانا عابر احضر النقوذ .
لمستها في الطبيب الذي عالج الامي بكل امانة ووصف لي الدواء المناسب وحذرني من ان اعمل اي تدخل جراحي لان حالتي ليست بحاجة لذلك على الاقل في الوقت الحاضر.
وفي بواب العمارة والذي كان دائما بشوش رغم مشاغله ومسئوليته تجاه كل سكان العمارة .بل ومن كرمه دعانا لحضور زواج ابنته في احدى قرى مصر وسعدنا بتلبية الدعوة والتعرف على اهل قريته الطيبين الذين فرحوا بمشاركتنا لهم افراحهم .
وفي البقال وسائق التاكسي وامام المسجد والمصلين وفي كل من قابلتهم .
-حقيقة مجتمعنا العربي المصري مجتمع بشوش متفائل مضياف طيب .يغني الضرير سيد مكاوي ياحلاوة الدنيا ياحلاوة وهو لايراها .
وغنى قبله عبدالحليم حافظ واسعد الملايين وهو يعاني من البلهارسيا القاتلة. ولازالت اغانيه حتى اللحظة بعد موته تسعدنا
(مصر ام الدنيا)
(يا وطن من سماء وماء / يا وطن من زهور ونور / يا وطن الاتقياء والاصطفاء / يا شعبا مومنا احتضن الأنبياء / ويعرف الأصول / يا امة جمال ومحمد على وسعد زغلول / وحارس الحضارة الزاهرة بكبرياء ابي الهول / ليل الظلم في ارض الحلم سوف يزول / ليل القهر في ارض مصر لم يطول / خرجت ملايينك لرفض مجتمع تهجير العجول / لرفض بيع النساء ونبذ قطعان الوحول / وتسمر التاريخ ينظر في ذهول / شعب حر حي يا خير جند الله وارقى العقول)
جمال باهرمز
مهندس وكاتب واديب عدني
26-اغسطس-22م
القاهرة