سكنت وعائلتي بالعام 1963م في قرية بيتونيا بفلسطين، والواقعة غرب مدينة رام الله ببضعة كيلومترات، محاطة وعلى مد النظر ببساتين الأشجار المثمرة، إخضرار محبب تزيده أشجار السرو الباسقة جمالاً محتضنة بيوتاً متناثرة مبنية من الحجر الأبيض، أبوابها وشبابيكها مقوَّسة وتعلوها أسقف مقببة، وتزين تلك المنازل بساطة وعفوية أهلها ومحبتهم للضيوف من خارج القرية، لذلك سرعان ما ألفنا القرية ووجوه أهلها الطيبين.
فسحة رائعة ولحظات جميلة وترويح عن النفس كانت تهبها (البَحْرَه) لأهل بيتونيا ولزائريها، كان شارع رام الله الهابط نحو بيتونيا ينعطف غرباً قرب مدرستي ليمر بمنخفض جميل يدعى &البحرة&، لأنه كان يبتلع مياه أمطار الشتاء بشهية حتى تتشبع أرضه، فيشكل بكمية الماء المتبقية بحيرة صغيرة أخاذة، يساعدها على الإمتلاء تدفق السيول من الأخاديد المتعرجة النازلة من تلة بيتونيا القديمة والتلة المقابلة لها.
بقدوم الربيع بحلته الخضراء كانت البحيرة الصغيرة موطناً للبط والأوز وطيور الفِرِّي والحمام والعصافير، ومكان يحلو للصيادين ممارسة هوايتهم في الإخلال بمكونات تلك البيئة الجميلة بممارستهم للصيد الجائر، وكان من أجمل عادات مدرستنا تنظيمها لنشاط لا منهجي بزيارة التلاميذ للبحرة مشياً علي الأقدام.
الأستاذ أبو يحيى القادم إلينا من أحدى قرى قضاء القدس كان قومياً عربياً متشدداً حتى النخاع، وكانت له طريقة خاصة في ترجمة حبه للزعيم جمال عبد الناصر بإبداع لا يخطر على بال، فبعدما قطعنا الشارع بأمان حتى نبدأ رحلتنا الصَفِّيَة باتجاه البحرة، قام الأستاذ بوضع تلميذ يدعى جمال بمقدمة الطابور تلاه التلميذ عبد القادر ووراءه إصطف ناصر، وهكذا كان لأستاذنا ما أراد بأن يكون جمال عبد الناصر بمقدمة الرتل، طالباً منا الحفاظ على مسافة خلف المقدمة – الزعيم، وإلَّا فالعصا لمن لم يلتزم بالأمر... وعصا.
حافلتين (باصين) تعملان جيئة وذهاباً على خط مدينة رام الله – قرية بيتونيا كانا واسطتنا للوصول إلى المدرسة حتى نكمل الفصل الثاني من السنة بنفس المدرسة، بعدما قرر والدي فجأة الانتقال للسكن بمدينة البيرة توأم مدينة رام الله، وإن تركنا الباصان خلفهما لأي سبب؛ لم نكن نملك إلا انتظار عمران سائق البويك الزرقاء أو ترقب &الدودج& السوداء طويلة الذيل كطاووس يقودها بمهارة شحدة المتلثم بكوفية تخفي جرحاً غائراً بفكه، اختلف الرواة في سبب إصابته، ومال أغلبهم لإصابته بطلقة بندقية إنجليزية في حرب فلسطين سنة 1948م، شحدة لم يكن ليكترث بذلك اللغط حوله ولم يُجهد نفسه أن يقدم لأحد تفسيراً.
دوار المنارة الرئيسي الملتقى لستة شوارع تمتد منه مخترقة أحياء مدينتي رام الله والبيرة كالشرايين من القلب ويفصل بينهما، وكانتا (ولا زالتا) تشكلان نموذجاً رائعاً للتعايش بين مسيحيي رام الله ومسلمي البيرة، كما هو الحال بمدينة القدس مسرى ومعراج سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وروحانية مدينة بيت لحم مهد سيدنا المسيح إبن مريم عليهما السلام، وفي هذه الأجواء الجميلة من الوطنية والأخوة وجمال النفوس وصفائها نشأنا متشربين حب الوطن وتقدير الآخر واحترام القيم الكبيرة للإنسانية.
والدي كان قارئاً نهماً ومثقفاً وذو ميولٍ وطنية لا يخفيها قرَّبته كثيراً من حركة القوميين العرب القريبة من الرئيس عبد الناصر، فتحول منزلنا بمدينة البيرة منذ سكنَّاه بالعام 1965م إلى صالون أدبي وثقافي وسياسي، طيف عبد الناصر لا يبارحه وتتنافس والدتي مع والدي في مقدار محبتهما للرَّيِسْ، وحيث أنها كانت تؤكد وتفتخر بأصول عائلتها المصرية، القادمة من أرياف طنطا لريف يافا بالعهد العثماني، فهذا برأيها يرجح كفَّة حبها لمصر و&للرَيِّسْ& على حساب كفَّة والدي.
كنا نسمع نقاشات ضيوفنا من قوميين وشيوعيين وبعثيين ومستقلين وجدالاتهم تخترق باب الصالون المغلق، تعلو وتهبط بمقدار سخونة الأحداث التي يتناولونها، وفي مركزها كانت القضية الفلسطينية والثورة في جنوب اليمن واستقلال الجزائر الناجز عن الاستعمار الفرنسي والثورة الفيتنامية، فتسللت إلى مسامعنا أسماء ومفردات جديدة وأحداث حفرت لنفسها موضعاً بالذاكرة شكلت أساساً لوعيٍ وطنيٍ مبكر.
فالمقاومين اليمنيين أقَضُّوا مضاجع المحتلين الإنجليز وخاصة في حي كريتر بمدينة عدن، وتباينت الآراء حول موقف الرئيس عبد الناصر من الجبهة القومية التي يقودها قحطان الشعبي ودعمه لجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل بقيادة الأصنج وعبد القوي مكاوي، وعن تدخُّل مصر والسعودية عسكرياً بالصراع، والموقف من الرئيس عبد الله السلّال الذي أسقط حكم الإمامة بشمال اليمن، سمعنا شيئاً عن ثوار الفيتكونغ وعن هانوي وسايغون وجونسون وخروتشوف والجنرال جْيَاب، وعن جميلة بوحَيْرِد وبن بلَّا وبومدين، وعن أحمد الشقيري ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد تشكيلها بمؤتمر القمة العربية بالعام 1964م تجسيداً لفكرة الرئيس عبد الناصر، وتسللت إلى آذاننا نُتفاً عن سوكارنو وتيتو ونهرو، وهل تحقيق الوحدة العربية بقيادة جمال عبد الناصر الطريق لتحرير فلسطين أم أن تحريرها سيقود إلى الوحدة...؟.
أنحني إجلالاً وإكباراً لذكرى والدي الجميل الذي حبب إلينا القراءة صغاراً، فحب الكتاب وشغف المطالعة كانا من المرتكزات الأساسية في تكوين وعينا الوطني المبكر والتصاقنا بهموم أمتنا العربية وقضيتنا الوطنية، وساهم أيضاً تصفحنا كل أسبوع للمجلات المصرية التي كان والدنا يشتريها مثل آخر ساعة والمصور وروز اليوسف وكذلك المجلتين الشهريتين الكاتب المصرية والعربي الكويتية، مكتبة والدي كانت تحوي كتباً وروايات ومجلات ملتزمة، أحن إلى تصفح بعضها مستعيداً ذكريات مختبئة بعيداً في ذاكرة الطفل مني، فتلوح لي ابتسامة والدي وأحس برضاه على ما قدمته للوطن، وتمسكي بالمبادئ والقيم التي أنشأنا ووالدتنا عليها.
وكبرنا، وعرفنا أن عبد الناصر كان رمزاً وطنياً كبيراً وأن دماؤه سالت على أرض فلسطين، وأنه أنصف الفلاحين وكفل مجانية العلاج والتعليم وبنى السد العالي وأمم القناة وطور الصناعات الثقيلة وبنى الجيش، وأن مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952م احتضنت قضية فلسطين ودعمت ثورات الجزائر واليمن بشطريه، وساهمت بتصفية الإستعمار بأفريقيا، كما ساهمت بشكل فاعل بتأسيس حركة عدم الإنحياز ومنظمة الوحدة الأفريقية.
حلمٌ راودني وأنا ضابط برتبة مقدم وحققته بعد ثلاث وعشرين سنة وأنا برتبة اللواء، أن أحمل على صدري شعار أكاديمية ناصر العسكرية العليا، فقبل عودتنا من المنافي والشتات لحضن الوطن بالعام 1994م نلت درجة الماجستير بالعلوم العسكرية من كلية الأركان العراقية، وبعد قتالنا القوات الإسرائيلية الغازية (88) يوماً خلال حصارها بيروت سنة 1982م تخرجت وبتفوق من الكلية العسكرية بجمهورية ألمانيا الديمقراطية، فحققت بذلك الشرطين اللازمين لقبولي بكلية الدفاع الوطني التي تمنح أعلى شهادة بالعلوم الإستراتيجية العليا، فالتحقت بهذا الصرح العسكري العلمي الشامخ بالعام 2017م، وساهم في بنائنا قامات وهامات وعقول مصرية قديرة في مجالات الإستراتيجية القومية وحسابات القوى الشاملة، وتوغلنا بصحبتهم عميقاً في خضم الأحداث والتحالفات على المستوى الإقليمي والدولي وتأثيراتها على الأمن القومي العربي الشامل، وتابعنا التغيرات التي تعصف بالنظام العالمي ومآلاته، وأنهيت الدورة وبحث التخرج بامتيازين.
سنة كاملة قضيتها وزوجتي بضيافة شعب مصر الطيب الأصيل، الملتزم بقضايا أمته العربية، كانت فرصة ثمينة للإطلالة على تلك الثورة الهائلة بالمستويات السياسية والإقتصادية والتكنولوجية والعسكرية – الأمنية، والتي تحققت خلال السنوات الأربع التي أعقبت خروج الجماهير في الثلاثين من يونيو 2013م لتصحيح مسار الثورة التي اختطفتها خفافيش الظلام وحرفتها عن أهدافها، فأنقذت البلاد والعباد من شر مستطير كاد أن يعصف بمصر العزيزة على قلوب أهلها ومحبيها، تدفق جماهيري هائل ذكرني بمشهد أجدادهم وآبائهم نازلين إلى الشوارع لإجبار الرئيس عبد الناصر للعودة عن قراره بالتنحي، وأن يعود بين الجماهير ليبني ويعد البلاد للحرب، لنصر آت حققه رفيق دربه محمد أنور السادات ورفاقه قادة مختلف الأسلحة في حرب أكتوبر 1973م وتحقيقهم معجزة العبور، أيقنت وأنا أتابع مشاهد الجماهير الغاضبة في 30 يونيو تملأ الشوارع والساحات تنتصر لمصر؛ أنه في اللحظات المفصلية من تاريخ المحروسة يقول أهلها الطيبين الأصلاء كلمة لها مفعول السحر: تحيا مصر... فتنتفض مصر محلقة عالياً كطائر العنقاء.
خلال هذه السنوات نجحت مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بالعودة لموقعها الريادي، تدافع عن قضايا العرب وفلسطين في قلبها، ترأست الإتحاد الأفريقي، مثلت القارة الأفريقية بمجلس الأمن، عضو مشارك بالتكتل الاقتصادي الهام (BRICS) والذي أتمنى أن يصبح إسمه (BRICSE) بانضمامها له، تعزيز أسطوليها بالبحرين المتوسط والأحمر بمجموعتي قتال مرافقة لحاملتي هليوكبترات هجومية لحماية مصالحها الاستراتيجية، تأسيس قاعدة محمد نجيب على حدودها الغربية، إقامة محطة نووية (الضبعة) لتوليد الكهرباء لمواكبة الإنتقال لعصر اقتصادي متطور، أينما تتجه في ربوع المحروسة ترى مدناً عصرية تشيد وطرق سريعة تفتح وجسور علوية تنجز وأنفاق تحفر، وزيادة كبيرة بالأراضي المزروعة لتحقيق الأمن الغذائي، وهمُّ قائد البلاد إعمار سيناء ومضاعفة العوائد المالية لقناة السويس بعد توسيعها بإقامة مدن حولها لتوطين الكفاءات والعاملين مع أسرهم، وخطة تطوير القناة تتضمن جلب الإستثمار الدولي لإقامة مصانع لتجميع السيارات ومعامل التكرير ومصانع البتروكيماويات، وتسييل الغاز الخام ودفعه بأنابيب إلى قرب الإسكندرية لتصديره لدول أوروبا والأمريكيتين، عقول تفكر وتخطط لمصر القائدة المهابة بالإقليم وذات الحضور الهام على المستوى الدولي.
مصر تقاتل على خمس جبهات، جبهة إجتثاث الإرهاب الأسود وإحباط أي تقرب معادي بعد خط سرت – الكفرة في ليبيا باتجاه الحدود الغربية لمصر، جبهة تأمين الأمن المائي وضمان حصة مصر من مياه نهر النيل وتلك مسألة أمن قومي بامتياز، ومصر مرتكز أساسي لضمان الإستقرار الإقليمي بمنطقة القرن الأفريقي، جبهة تأمين مصالح مصر بحقل غاز (ظُهُر)ْ المشترك مع اليونان وقبرص وإبقاء باب المندب مفتوحاً لضمان انسيابية التجارة العالمية وتصدير النفط عبر قناة السويس، وجبهة مواصلة البناء والتطوير وتنويع مصادر الدخل القومي، والجبهة الخامسة القضاء على فيروس كورونا والدعم الطبي للدول المنكوبة بالوباء.
مصر تأخذ مكانها تحت الشمس وتستعيد دورها العربي الإقليمي والدولي رغم تكالب الأعداء، فعلى أرضها شُيدت أقدم حضارة راقية عرفتها البشرية، وسيبقى نهر النيل يقطع أرضها من الجنوب حتى المصب يزرع أرضها خيراً واخضراراً، وأُسود خير أجناد الأرض تحمي برَّها وبحرها وجَّوها.
تلكم هي مصر التي في خاطري وفي دمي، مصر ولَّادة خصبة وليست بعاقر....
تحيا مصر