كنت على موعد هذا الأسبوع مع أحد القنوات الفضائية التي أعتز كثيرا بالخروج عليها, وبدعوة كريمة من معدة البرنامج التي تجمعني بها صداقة باعتبارها صحفية مثقفة ومستنيرة, واتفقنا على محاور اللقاء وأن الحوار سيكون قراءة في المشهد السياسي العربي الراهن وأثره على الأمن القومي المصري, وأكدت المعدة أن من سيدير الحوار هى صديقتي أيضا المذيعة اللامعة التي بهرتني في أول لقاء معها منذ سنوات بثقافتها وقدرتها على إدارة الحوار بكفاءة عالية على عكس كثير من الوجوه التي تظهر على الشاشات وتردد فقط ما يملى عليها من غرفة الكنترول التي يجلس بها هيئة تحرير البرنامج.
وفي بداية الحوار سألتني المذيعة عن بعض الأحداث وحاولت أن توحي لي بالإجابة وكانت إجابتي مختلفة تماما مع ما تطرحه, وظلت كل أسئلة الحوار على هذا المنوال, وفي نهاية الحوار الذي كان عبر منصة زوم وكنت لازالت على الهواء واعتقدت المذيعة أنني لا أسمع ما تقول وأكدت على المعدة أنهم أصبحوا خارج الهواء, ثم تابعت لتقول لها صديقك كده منحاز لموقف معين وللأسف ما أشارت إلى تحيزي إليه ليس صحيحاً بالمرة, ولا أنكر أنني منحاز فلا يوجد مفكر سياسي غير منحاز وإلا أصبح بلا موقف, وفي البداية أعترف بانحيازي التام للمشروع القومي العربي في مواجهة المشاريع المعادية والمنافسة لأمتنا العربية وهو ما يتطلب بعض التوضيح لتبرز الصورة كاملة وبشكل واضح.
ليست المرة الأولى التي أتحدث فيها عن فقه الأولويات عند تعاملنا مع الأخطار المحدقة بأمتنا العربية ولن تكون الأخيرة بالطبع, فآفة العقل الجمعي العربي هى النسيان, لذلك دائما ما نحتاج إلى إعادة تذكير هذا العقل الجمعي بأولويات المخاطر التي تحيط بأمتنا العربية حتى لا يفقد بوصلته, ويدخل في معارك جانبية ويترك معركته الحقيقية, ويجب أن نعترف بأن عدونا الحقيقي قد تمكن عبر العقود الخمس الأخيرة أن يفقدنا بوصلتنا الحقيقية تجاه الأخطار المحدقة بأمتنا العربية, وهو ما زيف وعي الغالبية العظمى من أبناء الشعب العربي, لدرجة جعلت البعض لا يفرق بين العدو والمنافس, بل تمكن العدو من أن يوهم بعض الحكام بأن معركتهم ليست معه بل مع الجيران.
وقبل الدخول في التفاصيل يجب أولاً التأكيد على بعض الحقائق التاريخية, وأول الحقائق أن إيران دولة من دول منطقتنا جارة تاريخية لها حقوق في جغرافية المنطقة مثل حقوقنا كعرب, وثاني هذه الحقائق تتعلق بتركيا وما ينطلق على إيران ينطبق عليها فهى أيضا دولة من دول منطقتنا وجارة تاريخية لها حقوق مثل حقوقنا, وثالث الحقائق يتعلق بوضع الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية والقابع على غالبية جغرافية فلسطين وبعض جغرافية الأردن وسورية ولبنان, ولازال يطمع في المنطقة الجغرافية الواقعة بين النيل والفرات بالكامل, فهذا الكيان ليس له أي حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة, ولا يجب أن يكون موجوداً بيننا أو بجوارنا من الأساس.
وفي محاولة قراءة وتوصيف المشهد الراهن في ضوء الحقائق التاريخية السابقة يمكننا القول أن هناك ثلاثة مشاريع تحاول فرض سيطرتها وهيمنتها على منطقتنا في ظل التنافس والصراع الإقليمي, ويأتي المشروع الإيراني في المقدمة وهذا المشروع يحاول التمدد داخل حدود منطقتنا العربية ليس بهدف احتلالها أو سرقة ونهب ثرواتها ولكن بدافع الحفاظ على الأمن القومي الإيراني الذي يهدد بفعل تغلغل وهيمنة بعض القوى الاستعمارية الغربية على بعض مجتمعاتنا العربية المتاخمة بحدودها مع إيران.
والمشروع الثاني هو المشروع التركي وهو أيضا يحاول التمدد داخل منطقتنا العربية بدوافع مختلفة منها ما هو مشروع مثل الحفاظ على الأمن القومي لتركيا, ومنها ما هو غير مشروع بمحاولة إعادة دولة الخلافة المزعومة وهو ما يعد احتلالاً صريحاً لمجتمعاتنا العربية, وما تقوم به تركيا من احتلال لبعض الأراضي العراقية والسورية خير شاهد وخير دليل, وبالطبع تتعاون تركيا في تنفيذ مشروعها مع بعض القوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية السارق والناهب الأكبر لثروات منطقتنا العربية, إلى جانب الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية.
وثالث هذه المشاريع هو المشروع الصهيوني الذي يحاول التمدد للسيطرة على أكبر جزء من منطقتنا العربية بهدف سرقة ونهب ثرواتنا من ناحية واغتصاب تاريخنا من ناحية أخرى, وهو بالطبع مدعوم من بعض القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجي لهذا الكيان الصهيوني, ويحاول على مدار الخمسة عقود الماضية اختراق مجتمعاتنا العربية بكل الطرق والوسائل, وتمكن من توقيع اتفاقيات سلام مزعومة مع بعض الدول العربية بدأت بكامب ديفيد مصر 1978, وأوسلو فلسطين 1993, ووادي عربة الأردن 1994, ثم اتفاقيات تطبيع مؤخرا مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب في غضون الخمسة أشهر الأخيرة من عام 2020.
وإذا كانت هذه هى حقيقة المشهد الراهن فيجب تحديد موقفنا من هذه المشاريع الثلاثة, ويجب أن نحدد بدقة أولويات المواجهة مع هذه المشاريع, وهنا يجب التأكيد على أن المشروعين الإيراني والتركي هي مشاريع منافسة وليست معادية, فالإيراني والتركي جارين ولهما حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة, وتأتي محاولات التمدد والهيمنة منهما بهدف الدفاع عن أمنهما القومي وهذا أمر مشروع ويمكن مواجهته في حالة بناء مشروع قومي عربي قوي يحد من هذه الطموحات ويقوم بفرملتها, وأي محاولة تتجاوز ذلك يجب ردعها وبقوة, أما المشروع الصهيوني فهو مشروع معادي لأمتنا العربية وليس له أي حق في جغرافية المنطقة, وبالتالي تأتي محاولات سيطرته وهيمنته على حساب أرضنا وثرواتنا ومقدرات شعوبنا, ولابد من مواجهته عسكرياً واقتلاعه من فوق الأرض العربية المغتصبة, هذا هو انحيازنا, وهذه هي رؤيتنا وموقفنا, اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد