النظام الرأسمالى قائم بالأساس على الاستغلال, وهو نظام اقتصادى ينقسم فيه المجتمع الى طبقتين أساسيتين الأولى تسمى طبقة البرجوازية وهم أصحاب رؤوس الأموال الذين يسيطرون على الثروة والسلطة داخل المجتمع والثانية تسمى طبقة البروليتاريا وهم العمال الذين لا يمتلكون غير قوة عملهم ويضطرون الى بيعها من أجل البقاء على قيد الحياة, والأولى تسعى دائما الى تعظيم أرباحها ومكتسباتها وثرواتها على حساب الثانية وعبر استغلال فائض قيمة عملها ومص دمائها, وهذا النظام الذى ظهر فى أوروبا فى أعقاب الثورتين الصناعية فى بريطانيا والفكرية فى فرنسا فى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر, أثار كثيرا من الجدل حيث جاءت النظرية الماركسية ومشتقاتها كنتاج طبيعي لهذا النظام الرأسمالى المستبد والمتوحش, وحاولت النظرية أن تطرح النظام الاشتراكى كنظام بديل للنظام الرأسمالى الذي يفتقد أى بعد للعدالة الاجتماعية, فى الوقت التى جاءت فيه نظريات التحديث الغربية لتدعم هذا النظام الرأسمالى وترسخه.
ومع مرور الوقت أصبحت الاقتصاديات العالمية تدور فى فلك هذين النظامين, فاتجهت الكتلة الغربية لتطبيق الرأسمالية فى حين اتجهت الكتلة الشرقية لتطبيق الاشتراكية, وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية بدأت الحرب الباردة بين القطبين الجديدين فى العالم الولايات المتحدة الأمريكية التى تتزعم النظام الرأسمالى والاتحاد السوفيتى الذى يتزعم النظام الاشتراكى, وسعت مجتمعات العالم الثالث التى تحررت من الاستعمار وتحاول اللحاق بركب التقدم والتنمية الى تطبيق واستنساخ هذه التجارب التنموية, وحاول القطبين العالميين استقطاب الدول النامية الى محورهما مع الفارق فى نوايا كل منهما, حيث حاولت الولايات المتحدة الأمريكية تكريس التخلف عبر التبعية للمشروع الرأسمالى, وحاول الاتحاد السوفيتى مساعدة مجتمعات العالم الثالث على التنمية المستقلة عبر المشروع الاشتراكى.
وكان من نصيب مصر التى شهدت حركة تحرر وطنى فى مطلع الخمسينيات من القرن العشرين أن تختار طريق التنمية على الطريقة الاشتراكية التى تحقق أكبر قدر من العدالة الاجتماعية والتى تسعى لتذويب الفوارق بين الطبقات, وقد كان حيث تم بناء القطاع العام الى جانب التعليم المجانى فنمت الطبقة الوسطى بشكل غير مسبوق فى التاريخ المصري على حساب الطبقات الفقيرة, وتمكنت مصر من بناء مجتمع منتج قائم على فكرة الكفاية والعدل, وشهدت المنظمات الدولية وعلى رأسها البنك الدولى أن التجربة المصرية حققت نجاح مبهر لدرجة سبقت فيها مصر كوريا الجنوبية التى بدأت تجربتها التنموية فى نفس التوقيت.
ومع مطلع السبعينيات ورحيل الزعيم جمال عبد الناصر وتولى الرئيس أنور السادات حكم مصر قرر أن يتخلى عن السير على طريق التنمية المستقلة والتى تستلهم النموذج التنموى الاشتراكى, وكان البديل الجاهز بالنسبة له هو طريق التبعية للنظام الرأسمالى العالمى الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية حيث أطلق مقولته الشهيرة أن 99 % من أوراق اللعبة فى يد الأمريكان ومن يومها بدأ الدوران فى فلك النظام الرأسمالي حيث أعلن عن تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى التى خلقت وخلال سنوات معدودة ما أطلق عليهم القطط السمان وهم مجموعة من السماسرة الذين يعملون وكلاء لدى الشركات الرأسمالية العملاقة متعددة الجنسيات والعابرة للقارات وينفذون تعليمات سيدهم الأمريكى وأطلقوا على أنفسهم مسمى رجال الأعمال بغض النظر عن نوعية هذه الأعمال سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة, وأصبحت هذه القطط السمان هى من يتحكم فى الاقتصاد الوطنى وبدأت عمليات الفرز الاجتماعى تتم على قدم وساق حيث يزداد الأغنياء غنى ويزداد الفقراء فقرا وبدأت الطبقة الوسطى فى الاختفاء حيث تآكلت مكتسباتها فى ظل تطبيق آليات السوق.
ورحل السادات وخلفه مبارك الذى قرر الاستمرار على نفس نهج التبعية للنظام الرأسمالى وفى عصره الذى استمر ثلاثة عقود كاملة بدأت عمليات بيع القطاع العام وتراجع التعليم المجانى لصالح التعليم الخاص بكافة أشكاله وتحولت القطط السمان الى ديناصورات مفترسة ابتلعت ثروات الوطن وضاعفت من ديونه الداخلية والخارجية مرات ومرات, وأصبح الملايين من الفقراء يعيشون دون خط الفقر, وانقسم المجتمع الى طبقتين الأولى هى مجموعة سارقى وناهبي قوت الشعب الذين يطلقون على أنفسهم زورا وبهتانا رجال الأعمال الذين تمكنوا من عقد زواج غير شرعي بين رأس المال المسروق والمنهوب والسلطة التى أصبح المال أحد أهم وسائل الوصول إليها, والثانية هى الغالبية العظمى من الشعب المصرى الذى يعانى من استغلال واستبداد وظلم وقهر الطبقة الحاكمة.
وفى المقابل قررت سورية فى ظل حكم الرئيس حافظ الأسد أن تسير فى الاتجاه المعاكس عبر تجربة تنموية مستقلة تعتمد فى جوهرها على النظام الاشتراكى, وكما نجحت تجربة جمال عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات, نجحت تجربة سورية وتمكنت من الوصول الى حد الاكتفاء الذاتى فكانت الدولة العربية الوحيدة قبل أزمة 2011 التى يأكل شعبها مما يزرع ويلبس مما يصنع ولا توجد ديون داخلية أو خارجية خاصة للدول الرأسمالية الغربية وكانت الطبقة الوسطى هى القوام الرئيسي لبنية المجتمع, وكما عاقب النظام الرأسمالي جمال عبد الناصر لعدم خضوعه للتبعية, يعاقب اليوم الرئيس بشار الأسد الذى حافظ على التجربة التنمية المستقلة لسورية, لذلك كانت كل هذه الحرب في محاولة لتقويض دعائم هذه التجربة, ورغم كل ما حدث مازالت سورية تقاوم وهو ما يعني أن الحل هو الفكاك من التبعية, اللهم بلغت اللهم فاشهد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق