اخبار ذات صلة

الأربعاء، 22 يونيو 2022

ذكرى عيد الجلاء وأهمية دراسة التجربة الناصرية

 

مرت خلال الأيام الماضية ذكرى عزيزة في تاريخ مصر الحديث وهي ذكرى عيد الجلاء، وجاء رحيل جنود الجيش البريطاني عن الأرض المصرية وفقًا لما نصت عليه اتفاقية جلاء الإنجليز عن مصر التي وقعها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر مع اللورد «ستانسجيت» في ١٩ أكتوبر عام ١٩٥٤، وتم تنفيذ الاتفاقية بخروج (٨٠) ألف عسكري إنجليزي من منطقة تمركز في قناة السويس، على خمس مراحل، مدة كل مرحلة أربعة أشهر انتهت بعد (٢٠) شهرًا في ١٨ يونيو ١٩٥٦م بجلاء آخر جندي إنجليزي من أرض مصر، ليكون ذلك اليوم عيدا قوميًا تحتفل به مصر كل عام وسمي «عيد الجلاء» .


البحث في تجربة الزعيم جمال عبدالناصر وانصافا للبحث تتطلب التطرق الى كافة جوانبها مع الأخذ بالاعتبار الظرف التاريخي والدولي خلال الفترة التي قضاها على رأس السلطة منذ القيام بثورة الضباط الاحرار في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م وحتى يوم رحيله في ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠م، وبالنظر الى تاريخ هذا الزعيم تتضح الكثير من المحطات التي لا بد من الوقوف عليها في التجربة الناصرية .


قبل الحديث عن تجربة جمال عبدالناصر لا بد من الولوج الى بعض الاسباب التي دفعت الضباط الاحرار الى التخطيط لما سمي حركة الجيش أو الثورة، فقد كانت مصر دولة تفتقد الكثير من عناصر القوة حيث يسيطر الاحتلال على مقدرات الدولة ويهيمن على القرار السيادي ليصل الامر الى أن تحاصر قوات الاحتلال الانجليزي قصر عابدين وتفرض على الملك فاروق تعيين رئيس وزراء موال للاحتلال في حالة تمثل غياب السيادة الوطنية، وما زاد الامور سوءا ودفع الضباط الاحرار لتسريع اعلان الثورة وجود قضايا داخلية شديدة الوطأة على كاهل البلد وأزمات عالقة وضعت مصر في حالة صعبة منها هيمنة فئة قليلة من ذوي النفوذ ورأس المال على السلطة والثروة، وكان من أشد القضايا الوطنية تأثيرا على الشارع المصري تجاهل الامم المتحدة لقضية الجلاء التي عرضت عليها ولم تلقى أي اهتمام من قبل الامم المتحدة، وفي الشأن الداخلي كانت قوات الاحتلال الانجليزي تمارس انتهاكات وعمليات قمع ضد أي حركة وطنية منها الهجوم على قسم الشرطة في الاسماعيلية الذي سقط فيه عدد كبير من رجال الشرطة، وفي اليوم التالي لتلك الواقعة حدث حريق القاهرة الشهير الذي إلتهم مساحات كبيرة ومراكز ثقافية وفنية في حين كان الملك وحاشيته يعيشون في حالة بذخ احتفاء" بعيد ميلاد ابنه الاول فؤاد في تجاهل واضح لحالة البلاد، كما كانت الاضطرابات الداخلية والصراعات بين الإخوان وحكومة النقراشي على أشدها انتهت باغتيال النقراشي باشا، اضافة الى تلك الاسباب تمثل حرب فلسطين التي خسرها العرب أحد أهم الاسباب التي دعت لتغيير النظام القائم في مصر كونها البلد المحوري الذي يجب أن يأخذ زمام القيادة في مختلف القضايا العربية، كما أن تقليص حجم وحدات الجيش الوطني بعد فرض الحماية البريطانية على مصر واغلاق المدارس الحربية والبحرية، وفقدان العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب وسوء توزيع ثروات الوطن كلها أسباب عجلت بقيام الثورة.


قامت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م على ستة مبادئ وهي القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة نظام ديمقراطي، فتمكن عبدالناصر ومجلس قيادة الثورة من تأسيس الجمهورية وكانت أولى انجازاته أزالة الاحتلال الانجليزي الجاثم على مصر لمدة (٧٤) عاما عندما وقع اتفاقية الجلاء عام ١٩٥٤م، كما قدم خدمة جليلة للفلاح المصري الذي يمثل فئة كبيرة من أبناء الشعب المصري فألغى الاقطاع وسن قانون الاصلاح الزراعي ومنح الفلاح المصري قطعة أرض يستصلحها ويسترزق منها بعدما كانت البلاد عبارة عن اقطاعية لملاك الاراضي، كما توسعت مساحة الاراضي الزراعية وكان القطن المصري يعتبر أجود أنواع القطن في العالم، ومنح الفلاحين نسبة تمثيل في مجلس الشعب وحقق للزراعة المصرية أعظم مشروع في ذلك الوقت وهو السد العالي، ويكفي مصر والعرب فخرا أن تمكن عبدالناصر من انتزاع دعما لبناء السد العالي من البنك الدولي رغم رفض امريكا في بداية الامر وهذا بحد ذاته يمثل ثورة بحد ذاته حيث وقف ناصر صامدا في تحدى تلك القوى الامبريالية بما كان يمتلك من مميزات الزعيم الذي يتسلح بالارادة الوطنية .


اعتمد الرئيس جمال عبدالناصر على الذات الوطنية فقام بإنشاء ٢٠٠٠ مصنع تعتبر باكورة الصناعة المصرية، كما انه طرق مجال الصناعة الحربية عندما كانت هناك ارادة وعزيمة وتصميم لجعل مصر تتبوأ مكانة عليا، وفي عام ١٩٥٦م أعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس وارجاعها للملكية المصرية وعلى اثره شنت انجلترا وفرنسا واسرائيل عدوانا على مصر لكن مصر أسطاعت الخروج من ذلك العدوان الثلاثي بنجاح سياسي كبير بعدما فرض الانسحاب على دول العدوان .


على الصعيد الخارجي تمكن جمال عبدالناصر من تأسيس مؤسسة عدم الانحياز مع رئيس وزراء الهند والرئيس اليوغسلافي، وهذا يحسب لعبدالناصر بل أنه تمكن من أن يضع القطب السوفييتي في خندق العرب ومد الدول العربية بالاسلحة، كما وقف السوفييت مع قضايا الوطن العربي لمجابهة التمدد الرأسمالي، كذلك ساند عبدالناصر حركات التحرر في الوطن العربي، وهي تلك الدول العربية التي وقفت بقوة مع مصر وسوريا في حرب اكتوبر عام ٧٣م وساهمت في دعم الانتصار العربي، ولا شك أن الانتصار في معركة العبور لم يكن ليتحقق لولا الاعداد والتخطيط الذي تم منذ اليوم الاول لهزيمة يونيو ١٩٦٧م بتحديث الجيش المصري وتغيير القيادات فكانت حرب الاستنزاف المقدمة الحقيقية  لانتصار أكتوبر، ومما يشار إليه أنه في ذروة حرب الاستنزاف طالب كيان الاحتلال ابرام اتفاق سلام مع عبدالناصر وتكررت العروض خمس مرات وبطرق مختلفة وذلك باعتراف مسجل لشيمون بيريز رئيس وزراء الكيان الاسبق، لكن عبدالناصر كان دائما يرفض تلك العروض لان السلام في نظره التخلص من الاستعمار وتحرير كامل الاراضي العربية من الجولان الى الضفة الى قطاع غزة وأخيرا سيناء فرفض ابرام أي اتفاق سلام وأكد أن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، وأعلنت اللاءآت الثلاث في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم معبرة" عن الارادة والعزيمة في تحقيق النصر، فشمل الاعداد مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والاعلامية في حالة وحدة عربية، فقد كانت الامة العربية عن بكرة أبيها تنتظر تلك المعركة بفارغ الصبر .


هناك الكثير من انجازات عبدالناصر التي لا يتسع المقام لذكرها وخاصة على الصعيد الداخلي من جسور ومدن صناعية وصناعة سيارات وقطع حربية وتنظيم الدولة المصرية وفي مجال الاذاعة والتلفزيون وقناة القرآن الكريم حيث تم تجميع القرآن الكريم في اسطوانات بأصوات مشائخ القراء المصريين وصل الى مختلف الأرجاء، وكان للازهر الشريف دورا كبيرا في استقبال البعثات الدراسية من مختلف دول العالم الاسلامي مشمولا بالدراسة والاقامة والمعيشة ومصروفات نقدية ما زال يتذكرها الى اليوم الدراسين في الازهر، وأقر عبدالناصر الدعم لجميع السلع الاستهلاكية الاساسية للشعب المصري، وعرفت مصر في عهده مجانية التعليم والصحة وشمل الضمان الاجتماعي جميع الاسر الفقيرة والمعسرة.


الجوانب الشخصية الانسانية في الرئيس جمال عبدالناصر تعكس جانبا هاما فهو انسان بسيط من عائلة بسيطة توفي ولم يوجد في جيبه سوى ٨٤ جنيه مصري ولم يتملك سيارة حتى منتصف فترة رئاسته، وهو انسان نزيه زاهد لم تستهويه مظاهر السلطة ولكنه كان يقف شامخا قويا وسط ظروف دولية عصيبة فهو رائد فكرة القومية العربية وقدم خدمات جليلة للاسلام غابت عن ذهن الكثيرين ممن نالهم اعلام التشويه لهذه الحقبة الذهبية من التاريخ،  كما التزم عبدالناصر خط الوحدة العربية والامن القومي العربي، وكرس مبادئ الحرية والاشتراكية والوحدة، وحتى اليوم هناك الملايين من أبناء الامة العربية مرتبطون بهذا الزعيم ويستأنسون بتجربته كأعظم تجربة قومية في الوطن العربي كانت لها تأثيرات في ميزان السياسة الدولية،وما زالت صوره مرفوعة في كل مناسبة عربية وهناك مواقف كثيرة أثبتت أن العلاقة بين هذا الزعيم والامة العربية جسدت ملاحم كبرى في تلك المرحلة مثل حادثة السفينة كليوباترا التي يستطيع القراء العودة اليها من خلال محرك البحث، كذلك كانت اذاعة صوت العرب الأداة الاعلامية الرابطة بين القائد والجماهير العربية والتي أثبتت أهمية وجود القيادة المحورية التي تلتف حولها الجماهير كورقة من أوراق القوة التي أفتقدتها الامة العربية في هذا الزمن .


نعم  اذا تحدثنا عن الاخطاء فإن جمال عبدالناصر كبشر غير معصوم عن الخطأ، فمصر لم تكن جاهزه لتلك الحرب ولم تكن الظروف مهيئاة، واعتمد ناصر على مشورة القائد العام للقوات المسلحة عبدالحكيم عامر مما أدى الى الهزيمة، وبعد هزيمة يونيو ٦٧م أعلن جمال عبدالناصر في خطاب تحمل المسئوليته الكاملة عن الهزيمة وأعلن تنحيه، ولكن الجماهير العربية وأبناء الشعب المصري رفضت تلك الاستقالة وقامت باكبر مظاهرات يومي ٩، ١٠ يونيو في أضخم استفتاء على رئيس في التاريخ، ليعلن بعدها عبدالناصر استجابته لمطالب الجماهير والعودة لاستكمال رسالته ومهمته في قيادة مصر وهذا يمثل أبرز عناصر القوة في الأمم الحية . 


عبدالناصر زعيم قومي عربي أراد لهذه الامة المجد والشموخ ورسم خطوط الكرامة والعزة في مشروع صادق بارادة صلبة وعزيمة قوية واليوم الملايين من الجماهير العربية مازالت ترفع صوره وتستانس بتجربته رحمة الله عليه، وهذا بالتأكيد لم يأتي من فراغ، فقد كان يمثل حلقة الميزان للقادة العرب ويجتمع الجميع على محورية مصر ودور عبدالناصر المؤثر على القادة والشعوب العربية، فقد كانت محوريته ومركزيته والتفاف الجماهير من حوله ونموذجه الوطني العروبي الثوري يسبب حالة قلق لكيان الاحتلال والقوى الاستعمارية التي كانت تحاول ضرب تلك الحالة القومية العربية وإعادة الهيمنة على الوطن العربي لكن ما حدث هو العكس تماما فقد تعززت تلك الرابطة بين الجماهير والقيادة الناصرية فواصلت الامة البناء والانتاج والاعتماد على الذات،  رحم الله جمال عبدالناصر وغفر له وأسكنه فسيح جناته .



خميس بن عبيد القطيطي


khamisalqutaiti@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق