لم تكن المرة الأولى التي يتم دعوتى للحديث عن الثورات العربية المزعومة، التي انطلقت في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011 في عدد من الدول العربية (تونس -مصر -اليمن -ليبيا –سورية) على التوالى وبشكل دراماتيكى، وفى غضون ثلاثة أشهر لا غير، بل يمكن القول إنه وعلى مدار ما يقرب من عقد من الزمان فقد دعيت عشرات المرات للحديث عن هذه الثورات، سواء في مؤتمرات أو ندوات أو لقاءات صحفية وبرامج حوارية عبر العديد من المنابر الإعلامية الإذاعية والتليفزيونية والفضائية، هذا بخلاف عشرات المقالات للصحف والمواقع المصرية والعربية، لكن دعوتى الأخيرة اتسمت بالخصوصية الشديدة، ذلك لأن العنوان هو "الحصاد المر للثورات العربية" قراءة في أسباب فشل هذه الثورات.
وكالعادة أعدت ورقة عمل وألقيت محاضرة حول الموضوع، ودارت المناقشات وكان بعضها هادئا والبعض الآخر حادا، وفى النهاية طلبت منى الجهة صاحبة الدعوة إجراء دراسة علمية حول المردود الاجتماعى والاقتصادى والسياسي للثورات العربية التي انطلقت قبل ما يقرب من عقد من الزمان، وبالطبع وافقت على إجراء الدراسة، خاصة وأنها واحدة من الظواهر الاجتماعية والسياسية التي أجريت عليها العديد من الدراسات عبر السنوات العشر الماضية..
وكنت دائما ما أتحفظ على إجراء مثل هذه الدراسات نظرا لحداثة الظاهرة، وعدم مرور وقت كاف للحكم عليها، لكن الآن ومع قرب استكمالها لعقد من الزمان فيمكننا تقييمها بشكل حقيقي وموضوعى وإصدار أحكام عليها، عبر مجموعة من الأدلة والبراهين الواقعية، باستخدام منهجيات البحث في العلوم الاجتماعية.
وأثناء التفكير في صياغة إشكالية البحث الرئيسية كان السؤال الذي يدور في ذهني هو ما الرؤية النظرية التي يجب استخدامها والاعتماد عليها في هذه الدراسة؟ وبعد تفكير عميق استقر في ذهني أن الرؤية النظرية التي يجب أن تنطلق منها الدراسة هي وبشكل محدد ومختصر "أن الثورات لا يحكم عليها إلا بنتائجها" وهذه الرؤية تطلبت وضع تعريف إجرائي للثورة يحددها في "إحداث تغيير جذرى إيجابي في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل أساسي"، وبناءً عليه فإذا لم تحقق الثورة –أي ثورة– التغيير الجذري الإيجابي في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فإن الحكم عليها كثورة يكون محل شك، وبالتالى يمكن توصيفها بأى شيء آخر غير أنها ثورة.
ومن هنا فالثورة دائما ما يكون لها أهداف تسعى إلى تحقيقها، كما أن لها أسباب ودوافع تختلف من مجتمع إلى آخر، لذلك حين نكون بصدد دراسة حصاد الثورات العربية، فيجب أولا البحث عن أهداف وأسباب ودوافع كل ثورة بشكل منفرد ولا يمكن التعميم منذ البداية، فكل ثورة حالة متفردة بذاتها من حيث الأهداف والأسباب والدوافع، وهو ما ينعكس على النتائج أيضا، وحتى لا نقفز على نتائج الدراسة والتي سوف تعتمد على منهج دراسة الحالة باستخدام المقابلات المتعمقة مع بعض الخبراء والمثقفين من الدول العربية التي حدثت فيها هذه الثورات لكى يقدموا لنا قراءة من الداخل حول ما حدث داخل مجتمعهم على مدار السنوات العشر الماضية منذ انطلاق هذه الموجة الثورية، ليخبرونا عن المردود الاجتماعى والاقتصادى والسياسي لهذه الثورات المزعومة؟.
وقد يرى البعض أن حصاد الثورات العربية المزعومة لا يحتاج لمثل هذه الدراسة، فالصورة أصبحت جلية وواضحة فالحصاد مر، والمردود الاجتماعى والاقتصادى والسياسي يميل في كل المجتمعات العربية الخمس إلى السلبى، فهناك ثلاثة مجتمعات تم تدميرها وتشريد شعوبها تحت مسمى الثورة المزعومة وهى ليبيا واليمن وسورية، أما تونس ومصر فهى في أفضل الأحوال تسعى للعودة إلى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قبل انطلاق هذه الثورات المزعومة دون جدوى، وبالتالى إذا كانت الثورات يحكم عليها بنتائجها فحصاد الثورات العربية يقول إنها ليست بثورات لأنها لم تحدث التغيير الجذرى الإيجابي في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل أحدثت تغييرا جذريا سلبيا على هذه المستويات.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة قد تبدأ الدراسة بفرضية ترى أنها بالفعل ليست ثورات بناءً على التعريف الإجرائي التي تنطلق منه الدراسة ويحدد الثورة في "إحداث تغيير جذرى إيجابى في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية"، لكن هذه الفرضية تحتاج إلى أدلة وبراهين علمية مستقاة من الواقع كى نؤكد صحتها أو خطأها، وهو ما نحتاج إليه في اللحظة الراهنة، وهو ما يمكن أن تضيفه هذه الدراسة لتحسم جدلا طويلا دار على مدار العشر سنوات الماضية حول ما أطلق عليه الربيع العربي، وهل هو ربيع بالفعل أم صيف شديد الحرارة، أو خريف عاصف بالأتربة، أو شتاء قارص البرودة؟
والحكم في النهاية سيكون للمواطن العربي الذي يتلقى المردود الاجتماعى والاقتصادى والسياسي لهذه الثورات، سواء بالإيجاب أو السلب، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
د. محمد سيد احمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق